بين الحديثين، بل لو قال قائل: هذا النهي منسوخ بحديث معاذ لم يكن بعيداً. وأما تقوية بعضهم بكون حديث معاذ منسوخاً بأن صلاة الخوف وقعت مراراً على صفة فيها مخالفة بالأفعال المنافية في حال الأمن، فلو جازت صلاة المفترض خلف المتنفل لصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم مرتين على وجه لا تقع فيه منافاة، فلما لم يفعل ذلك دل على المنع. فجوابه: أنه ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم صلاة الخوف مرتين كما أخرجه أبوداود عن أبي بكرة صريحاً، وصرح فيه أنه سلم على الركعتين الأوليين، ولمسلم عن جابر نحوه، لكن ليس في روايته تصريح بالسلام على الركعتين، وأما صلاته بهم على نوع من المخالفة فلبيان الجواز. وأما قول بعضهم: كان فعل معاذ للضرورة لقلة القراءة ذلك الوقت. فهو ضعيف كما قال ابن دقيق العيد؛ لأن القدر المجزئ من القراءة في الصلاة كان حافظوه كثيراً، وما زاد لا يكون سبباً لارتكاب أمر ممنوع منه شرعاً في الصلاة-انتهى. وأما ما رواه أحمد، والطحاوي، وابن عبد البر، عن معاذ بن رفاعة، عن سليم رجل من بني سلمة: أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يارسول الله - صلى الله عليه وسلم -! إن معاذ بن جبل يأتينا-الحديث. وفي آخره:: "يا معاذ! لا تكن فتاناً، إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف على قومك". واستدل به الطحاوي على أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى معاذاً عن ذلك، وادعى أن قوله:"إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف على قومك" معناه: إما أن تصلي معي، ولا تصلي بقومك وإما أن تخفف بقومك، أي ولا تصلي معي. ففيه: أن في صحة هذه الرواية كلاماً، قال ابن حزم في المحلى (ج٤: ص٢٣٠) : هذا خبر لا يصح؛ لأنه منقطع؛ لأن معاذ بن رفاعة لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أدرك هذا الذي شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمعاذ؛ لأن هذا الشاكي – أي سليماً صاحب القصة – قتل يوم أحد. ثم في صحة ما ذكره الطحاوي في معنى قوله:"إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف على قومك" كلام أيضاً. قال الحافظ في الفتح: وأما دعوى الطحاوي أن معناه: إما أن تصلي معي ولا تصل بقومك، وإما أن تخفف بقومك ولا تصل معي، ففيه نظر؛ لأن لمخالفه أن يقول: بل التقدير: "إما أن تصلي معي فقط إذا لم تخفف، وإما أن تخفف بقومك فتصلي معي". وهو أولى من تقديره لما فيه من مقابلة التخفيف بترك التخفيف؛ لأن هو المسؤل عنه المتنازع فيه-انتهى. قلت: ورواية عبد الرزاق والشافعي وغيرهما بزيادة: "هي له تطوع ولهم فريضة" تؤيد المعنى الذي بيّنه الحافظ، وتوهن المعنى الذي بينه الطحاوي. واستدل الحنفية على عدم جواز اقتداء المفترض بالمتنفل بما روي مرفوعاً: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه. قالوا: لا اختلاف أشد من الاختلاف في النيات في صلاة فرضين، أو تنفل الإمام وافتراض المقتدي. وأجيب: بأن الاختلاف المنهي عنه مقصور على الاختلاف في الأفعال الظاهرة؛ لأن الاختلاف في النيات لا يظهر به مخالفة الإمام عند الناس، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بين في هذا الحديث نفسه المواضع التي يلزم الائتمام بالإمام فيها، ويحرم الاختلاف عليه فيها، وهي قوله - عليه السلام -: فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعودا. فههنا أمر- عليه السلام -بالائتمام