ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم)) .
ــ
وركوعاً، وسجوداً، وقعوداً، فالقيام محل قراءة القرآن، والركوع والسجود لهما دعاءان مخصوصان، والقعود محل التشهد، فلم يبق للدعاء إلا بعد التشهد قبل السلام. (ظلمت نفسي) أي بملابسة ما يوجب العقوبة، أو ينقص الحظ والأجر. (ظلمًا كثيراً) يروى بالمثلثة وبالموحدة فيخير الداعي بين اللفظين، ولا يجمع بينهما؛ لأنه لم يرو إلا أحدهما. وقيل: يأتي مرة بالمثلثة، ومرة بالموحدة، فإذا أتى بالدعاء مرتين فقد نطق بما نطق به النبي - صلى الله عليه وسلم - بيقين. قال الحافظ: في الحديث أن الإنسان لا يعري عن تقصير، ولو كان صديقا. قال السندي: بل فيه أن الإنسان كثير التقصير وإن كان صديقاً؛ لأن النعم عليه غير متناهية، وقوته لا تطيق بأداء أقل قليل من شكرها، بل شكره من جملة النعم أيضاً فيحتاج إلى شكر هو أيضاً كذلك، فما بقي له إلا العجز والاعتراف بالتقصير الكثير، كيف وقد جاء في جملة أدعيته - صلى الله عليه وسلم - "ظلمت نفسي" انتهى. (ولا يغفر الذنوب إلا أنت) فيه إقرار بوحدانية الباري تعالى، واستجلاب لمغفرته بهذا الإقرار كما قال تعالى: علم أن له رباً يغفر الذنب. ويأخذ بالذنب، وقد وقع في هذا الحديث امتثال لما أثنى الله تعالى عليه في قوله:{والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله}[٣: ١٣٥] ، فأثنى على المستغفرين، وفي ضمن ثناءه بالاستغفار لوح بالأمر به كما قيل: إن كل شيء أثنى الله على فاعله فهو آمر به، وكل شيء ذم فاعله فهو ناه عنه. وقوله "لا يغفر الذنوب إلا أنت" كقوله تعالى: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} . (مغفرة) نكرها للتعظيم أي مغفرة عظيمة، وزادها تعظيماً بوصفها بقوله:(من عندك) ؛ لأن ما يكون من عنده لا تحيط بوصفه عبارة. وقيل، معناه: من محض فضلك من غير سابقة استحقاق مني، أو مغفرة لائقة بعظيم كرمك. قال الطيبي: دل التنكير على أنه غفران لا يكتنه كنهه، ثم وصف بقوله "من عندك" مبالغة في ذلك التعظيم؛ لأن ما يكون من عند الله ومن لديه لا يحيط به وصف واصف كقوله تعالى:{وعلمناه من لدنا علماً}[١٨: ٦٥] . وقال ابن دقيق العيد: يحتمل وجهين: أحدهما الإشارة إلى التوحيد المذكور، كأنه قال: لا يفعل هذا إلا أنت فافعله لي أنت. والثاني- وهو أحسن- أنه إشارة إلى طلب مغفرة متفضل بها، لا يقتضيها سبب من العبد من عمل حسن ولا غيره، فهي رحمة من عنده بهذا التفسير ليس للعبد فيها سبب، وهذا تبرؤ من الأسباب، والإدلال بالأعمال والاعتقاد في كونها موجبة للثواب وجوباً عقلياً، وبهذا الثاني جزم ابن الجوزي فقال: المعنى هب لي المغفرة تفضلاً وإن لم أكن لها أهلاً بعملي. (إنك أنت الغفور الرحيم) هما صفتان ذكرتا ختما للكلام على جهة المقابلة لما قبله، فالغفور مقابل لقوله "اغفرلي" والرحيم مقابل لقوله "ارحمني" وهي مقابلة مرتبة. وفي هذا الحديث من الفوائد: التوسل إلى الله تعالى بأسمائه عند طلب الحاجات، واستدفاع المكروهات، وأنه يأتي من صفاته في كل مقام ما يناسبه كالغفور الرحيم عند طلب المغفرة والرحمة، ونحو. {وارزقنا وأنت خير الرازقين}[٥: ١١٤] عند طلب الرزق، والقرآن والأدعية النبوية مملوة بذلك. وفيه أيضاً استحباب طلب التعليم من العالم