والحاكم من الحديث أبي سعيد الخدري أنه قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو على المنبر "ص" فلما بلغ السجدة نزل، فسجد وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها، فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما هي توبة نبي، ولكني رأيتكم تشزنتم للسجود، فنزل فسجد وسجدوا. وقد سكت عنه أبوداود والمنذري. قال بعض الحنفية: إن ذلك إنما كان حين لا يرى السجدة عزمة في سورة "ص"، بل كانت رخصة إذ ذاك، فلما عزم الأمر تحتم بالسجود - انتهى. وفيه أن هذا يحتاج إلى دليل ولا يثبت بالادعاء شيء فهو مردود على قائله، وأيضاً لو كان كذلك لما قال ابن عباس بعده - صلى الله عليه وسلم -: ص ليس من عزائم السجود، ولما سكت الصحابة الحاضرون في خطبة عمر عن قوله: ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولا نكروا على منعهم من السجدة. ويدل على كون الأمر للندب أيضاً ما قاله ابن رشد: اتبع مالك والشافعي في مفهوم الأوامر الصحابة، إذ كانوا هم أقعد بفهم الأوامر الشرعية، وذلك كما ثبت عن عمر بن الخطاب بمحضر الصحابة، فلم ينقل عن أحد منهم خلافه، وهم أفهم بمغزى الشرع. قلت: يشير بذلك إلى ما رواه البخاري والبيهقي والأثرم عن عمر: أنه قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها، حتى إذا جاءت السجدة قال: يا أيها الناس إنما نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر. وزاد نافع عن ابن عمر: إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء. وفي رواية الأثرم: فقال على رسلكم، إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء، فقرأها ولم يسجد، ومنعهم أن يسجدوا. وهذا حديث مرفوع خلافاً لظاهره الذي أشبه على العيني وأمثاله؛ لأن عمر حكى أن الله لم يفرض السجود علينا الخ. ويقول ذلك بحضرة كبار الصحابة، وهو لا يريد من هذا اللفظ أن هذا رأيه واستنباطه، كما هو بين بديهي. قال الكرماني: قوله من لم يسجد فلا إثم عليه، دليل صريح في عدم الوجوب، ولم ينكر عليه أحد، فكان إجماعاً سكوتياً على ذلك، وهو حجة عند الحنفية، وكذا قوله، لم يفرض: دليل آخر، ثم عدم سجوده ومنعه الناس من السجدة دليل ثالث، وقوله إلا أن نشاء دليل رابع؛ لأنه يدل على أن المرأ مخير في السجود، والتخيير ينافي الوجوب. قال صاحب التوضيح: ترك عمر مع من حضر السجود ومنعه لهم دليل على عدم الوجوب. ولا إنكار ولا مخالف، ولا يجوز أن يكون عند بعضهم أنه واجب ويسكت عن الإنكار على غيره في قوله ومن لم يسجد فلا إثم عليه. وقال الحافظ: استدل بقوله إلا أن نشاء، على أن المرأ مخير في السجود، فيكون ليس بواجب - انتهى. وأجاب بعض الحنفية عن مخالفة الإجماع السكوتي بأنه ضعيف؛ لأن إنكار المختلف فيه غير لازم، سيما إن كان قائله إماماً، وفيه أنه لم يرد عمر بقوله: إن الله لم يفرض السجود علينا، أن هذا رأيه واجتهاده واستنباطه. وأيضاً لم يثبت عن أحد الصحابة أنه كان يرى سجدة التلاوة واجبة، حتى يكون ذلك مسألة اجتهادية مختلفاً فيها بينهم، ولو سلم