للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

والإنس)) .

ــ

فهو من الأمور التي لا يطلع الإنسان عليها إلا بتوقيف، وتجويز أنه كشف له عن ذلك بعيد؛ لأنه لم يحضرها قطعاً، قاله الحافظ. وقال شيخه العراقي: الظاهر أن الحديث من مراسيل ابن عباس عن الصحابة، وإنه لم يشهد تلك القصة، خصوصاً إن كانت قبل فرض الصلاة، ومراسيل الصحابة مقبولة على الصحيح. والظاهر أن ابن عباس سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدث به. (والإنس) إجمال بعد تفصيل نحو قوله تعالى: {تلك عشرة كاملة} [٢: ١٩٦] قاله الكرماني. وزاد صاحب اللامع الصبيح: أو تفصيل بعد إجمال؛ لأن كلاً من المسلمين والمشركين شامل للإنس والجن. قال الكرماني: سجد المشركون مع المسلمين؛ لأنها أول سجدة نزلت، فأرادوا معارضة المسلمين بالسجود لمعبودهم، أو وقع ذلك منهم بلا قصد، أو خافوا في ذلك المجلس من مخالفتهم- انتهى. وفي هذا الأخير نظر؛ لأن المسلمين حينئذٍ هم الذين كانوا خائفين من المشركين لا العكس، وقد ذكر المفسرون في هذه القصة. في تفسير قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} الآية [٢٢: ٥٢] . أنه جرى على لسانه - صلى الله عليه وسلم - من قبل الشيطان الكلمات المشهورة، وهي: تلك الغرانيق (١) العلى. وإن شفاعتهن لترتجى، فلذلك سجد المشركون معه حيث زعموا أنه لا اختلاف بعد ذلك بيننا وبينه؛ لأنه يثني على آلهتنا، لكن لا أصل لهذه القصة عند المحدثين، بل الحق أن هذه الكلمات ما جرت على لسانه عليه السلام، والقصة موضوعة كما قال الذهبي وغيره من المحدثين. وكيف يظن مثل هذا بأكرم الرسل خير المخلوقات أنه تسلط عليه الشيطان. حاشا جنابه عن نسبة أمثال هذه الواهيات، ثم حاشا هذا، وقد قال تعالى في حق عامة الصلحاء: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} [١٥: ٤٢] . فأفاد نفيه بكل الوجوه، فما ظنك بسيد البشر والشفيع المشفع في المحشر، بل الحق أن المشركين إنما سجدوا لغلبة جلاله وجبروته عليه السلام، وسماع المواعظ البليغة في القرآن، فاضطروا إلى السجود ولم يبق اختيارهم في أيديهم. وكيف يستبعد ذلك، وقد قال الله تعالى: {كلما أضاء لهم مشوا فيه} [٢: ٢٠] وقال: {وجحدوا واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً} [٢٧: ١٤] . كذا في شرح تراجم أبواب صحيح البخاري للشاه ولي الله الدهلوي. قلت: جميع ما يذكر من الروايات في قصة الغرانيق إما مرسلة أو منقطعة لا تقوم الحجة بشيء منها، كما قال البزار والبيهقي وابن خزيمة وابن كثير وغيرهم. فالحق أن هذه القصة مكذوبة باطلة لا يصح فيها شيء من جهة النقل، لأنه لم يروها أحد من أهل الصحة، ولا أسندها ثقة بسند صحيح أو سليم متصل، وإنما رواها المفسرون والمؤرخون والمولعون بكل غريب الملفقون من الصحف كل صحيح وسقيم. وقد دل على عدم ثبوت لهذه القصة اضطراب رواتها، وانقطاع سندها، واختلاف ألفاظها. والذي جاء في الصحيح من حديث ابن مسعود عند الشيخين، وحديث ابن


(١) الغرانيق - بفتح الغين المعجمة - طيور الماء، شبهت الأصنام المعتقدون فيها أنه تشفع لهم بالطيور تعلو في السماء وترفع.

<<  <  ج: ص:  >  >>