عباس هذا لم يذكر فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر تلك الألفاظ ولا قرأها. والذي ذكره المفسرون عن ابن عباس في هذه القصة فقد رواه عنه الكلبي، وهو ضعيف جداً، بل متروك لا يعتمد عليه. وكذا أخرجه النحاس بسند آخر، فيه الواقدي. ولا يصح من جهة العقل أيضاً؛ لأن مدح إله غير الله تعالى كفر، ولا يصح نسبة ذلك إلى لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن جوّز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر؛ لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان، ولو جوز ذلك لارتفع الأمان عن شرعه، وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك، أي مما ألقاه الشيطان على لسانه. ويبطل قوله:{بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته}[٥: ٦٧] ، فإنه لا فرق عند العقل بين النقصان من الوحي وبين الزيادة فيه، هذا وقد حاول الحافظ في الفتح: أن يدعي أن للقصة أصلاً حيث قال بعد ذكر طرق عديدة لها أن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن لها أصلاً، قال وقد ذكرت أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح، وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض، قال وإذا تقرر ذلك تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر، وهو قوله ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى. وإن شفاعتهن لترتجى، فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره؛ لأنه يستحيل عليه - صلى الله عليه وسلم - أن يزيد في القرآن عمداً ما ليس منه، وكذا سهواً إذا كان مغايراً لما جاءته من التوحيد لمكان عصمته، ثم ذكر تأويلات للعلماء، ورد على كل واحد منها إلا تأويلاً واحداً، فأقره وجعله أحسن الوجوه، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرتل القرآن، فارتصده الشيطان في سكتة من السكتات، ونطق بتلك الكلمات محاكياً نغمته، بحيث سمعه من دنا إليه، فظنها من قوله وأشاعها. قلت. في هذا التأويل أيضاً نظر، فإن جواز ذلك أيضاً يخل بالوثوق بالقرآن، ويرفع الاعتماد على قوله عليه السلام والأمان من شرعه؛ لاحتمال أن يكون ذلك مما نطق به الشيطان في سكتة من سكتاته عليه السلام، محاكياً نغمته وصوته بحيث سمعه من دنا إليه، فظنه من قوله وأشاعه. وأما قوله: إن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها الخ. ففيه أن هذا ليس قاعدة كلية. قال الزيلعي في نصب الراية (ج ص) : وكم من حديث كثرت رواته وتعددت طرقه، وهو حديث ضعيف، كحديث الطير، وحديث الحاجم والمحجوم، وحديث: من كنت مولاه فعليّ مولاه، بل قد لا يزيد الحديث كثرة الطرق إلا ضعفاً- انتهى كلام الزيلعي. واختلفوا في تفسير قوله تعالى في سورة الحج:{وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم آياته والله عليم حكيم. ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد} ، ومن أحسن ما قيل فيه: هو أن الله تعالى ما أرسل رسولاً ولا نبياً من الأنبياء إلى أمة من الأمم إلا وذلك الرسول يتمنى الإيمان لأمته، ويحبه لهم