للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة

ــ

فزاد فيه "حنفاء مسلمين"، ويدل عليه استشهاد أبي هريرة بقوله تعالى: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} [٣٠: ٣٠] ، فقد أجمع أهل التأويل أن المراد بالفطرة في الآية الإسلام. والحديث سبق لبيان ما هو في نفس الأمر لا لبيان أحكام الدنيا، فلا عبرة للإيمان الفطري في أحكام الدنيا، وإنما يعتبر الإيمان الشرعي المكتسب بالإرادة، ألا ترى أنه يقول: "فأبواه يهودانه" في حكم الدنيا، فهو مع وجود الإيمان الفطري فيه محكوم له بحكم أبويه الكافرين، ومعنى قوله - عليه السلام -: "طبع كافراً" في حديث موسى والخضر: أي خلق وقدر وجبل أنه لو عاش يصير كافراً، وأن الله علم أنه لو بلغ لكان كافراً، لا أنه كافر في الحال، ولا أنه يجري عليه في الحال أحكام الكفار، وقوله تعالى: {لا تبديل لخلق الله} يؤول بأنه من شأنه أو الغالب فيه أنه لا يبدل، أو يقال: الخبر بمعنى النهي، ولا يجوز أن يكون إخباراً محضاً لحصول التبديل. وقيل: المراد بالفطرة في الحديث وكذا في الآية ما فطر الله الخلق عليه من الهيئة مستعدة لمعرفة الخالق. ومتهيأة لقبول الدين، ومتمكنة من الهدى، ومتأهلة لقبول الحق والتمييز بين حسن الأمر وقبيحه، فلو ترك المولود على ما فطر عليه من التمكن على الهدى والتأهل لقبول الحق والتهيؤ لقبول الدين في أصل الجبلة، ولم يتعرضه آفة من قبل الأبوين وغيرهما لاستمر على لزومه ولم يفارقه إلى غيره، ولم يختر غير هذا الدين الذي حسنه ظاهر عند ذوي العقول وثابت في النفوس. والفطرة بهذا المعنى لا يتهيأ لأحد تبديلها؛ لأن هذا الاستعداد والتهيؤ لا يتبدل، وإن ذهب ذاهب إلى خلاف مقتضاها كانت بحالها حجة عليه، وليس هذا تبديلاً له بل عدم ظهور أثره بالفعل. وهذا أرجح الأقوال عندي وأولاها. ولا يخالفه لفظ "الملة" ولا حديث عياض بن حمار كما لا يخفى على المتأمل. وإلى هذا القول مال القرطبي في المفهم فقال: المعنى أن الله خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فمادامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام، وهو الدين الحق، وقد دل على هذا المعنى بقية الحديث، حيث قال: "كما تنتج البهيمة ... "الخ، يعني أن البهيمة تلد الولد كامل الخلقة، فلو ترك كذلك كان بريئاً من العيب. لكنهم تصرفوا فيه بقطع أذنه مثلاً، فيخرج عن الأصل، وهو تشبيه واقع وجهه واضح، وهو الذي رجحه التوربشتي في شرح المصابيح، واختاره الطيبي في شرح المشكاة، والشاة ولي الله الدهلوي في حجة الله، وقال في شرح الموطأ: إنه أصح ما قيل في هذا الحديث. (يهودانه) بتشديد الواو، أي يعلمانه اليهودية ويجعلانه يهودياً إذا كانا من اليهود. وذلك بتقدير الله وقضائه لا بخلقهما، فلا حجة فيه للقدرية. وكذا ينصرانه ويمجسان، والفاء في "فأبواه" إما للتعقيب وهو ظاهر، أو للتسبيب، أي إذا تقرر ذلك فمن تغير كان بسبب أبويه غالباً. (كما تنتج) أي تلد (البهيمة) بالرفع، وقوله: "كما" إما حال من الضمير المنصوب في يهودانه مثلاً، أي يهودان المولود بعد أن خلق على الفطرة مشبهاً بالبهيمة التي جدعت بعد أن خلقت سليمة. أو من الضمير المرفوع في "يولد"، شبه ولادته على الفطرة بودلاة البهيمة السليمة، غير أن السلامة حسية ومعنوية،

<<  <  ج: ص:  >  >>