قال الحافظ: وهذا الذي قاله هو الأشهر. ومنهم من عبر ذلك باثني عشر ألف قدم بقدم الإنسان. وقيل: هو أربعة آلاف ذراع. وقيل: بل ثلاثة آلاف ذراع. وقيل: وخمس مائة، صححه ابن عبد البر. وقيل غير ذلك، وقد عقد البخاري في صحيحة ترجمة أورد فيها ما يدل على أن اختياره أن أقل مسافة القصر يوم وليلة، كما هو مختار الأئمة الثلاثة، واختاره أيضاً الشاه ولي الله الدهلوي، وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر. وقال أبوحنيفة أقل مسافة القصر مسيرة ثلاثة أيام ولياليها، ولا يشترط السفر كل يوم، بل إلى الزوال؛ لأنهم جعلوا النهار للسير والليل للاستراحة، ولا اعتبار بالفراسخ على أصل مذهبه، لكن المتأخرين قدروا ذلك بالفراسخ تسهيلاً، ففي البحر عن النهاية الفتوى على ثمانية عشر فرسخاً. وفي المجتبى فتوى أكثر أئمة خوارزم على خمسة عشر فرسخاً، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل عند القدماء منهم ثلاثة آلاف ذراع، وعند المتأخرين أربعة آلاف ذراع، والذراع عند الأولين اثنان وثلاثون إصبعاً، وعند الآخرين أربع وعشرون إصبعاً، والإصبع عند الكل ست شعيرات مضمومة البطون إلى الظهور، وكل شعيرة مقدار ست شعور من ذنب الفرس التركي. والراجح عندي ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة أنه لا يقصر الصلاة في أقل من ثمانية وأربعين ميلاً بالهاشمي. وذلك أربعة برد أي ستة عشر فرسخا، وهي مسيرة يوم وليلة بالسير الحثيث. وذهب أكثر علماء أهل الحديث في عصرنا إلى أن مسافة القصر ثلاثة فراسخ مستدلين لذلك بحديث أنس المتقدم في كلام الحافظ، ومال ابن قدامة إلى قول الظاهرية أنه يجوز القصر في كل سفر قصيراً كان أو طويلاً، حيث قال بعد الرد على أقوال الأئمة الأربعة: والحجة مع من أباح القصر لكل مسافر إلى أن ينعقد الإجماع على خلافه. وأما السفر الذي يجوز فيه القصر فاختلفوا فيه على ثلاثة أقوال: الأول أنه تقصر في كل سفر من غير تفصيل طاعة أو معصية. مباح أو قربة، مكروه أو مندوب، قاله أبوحنيفة وأصحابه اعتبار الإطلاق ظاهر لفظ السفر. والثاني لا يجوز إلا في سفر قربة اختاره أحمد في أحد قوليه. والثالث لا يجوز إلا في مباح، قاله مالك في المشهور من قوليه والشافعي قولاً واحداً، وهو المنصوص عن أحمد، كما في المغني، وكره مالك القصر لمن خرج متصيداً للهو. وأما من كان معاشه فيقصر، والراجح عندي هو القول الثاني أنه لا يقصر المسافر إلا أن يكون سفره في طاعة وقربة أو فيما أباح الله له، قال ابن قدامة: لأن الترخص شرع للإعانة على تحصيل المقصد المباح توصلاً إلى المصلحة، فلو شرع ههنا لشرع إعانة على المحرم تحصيلاً للمفسدة، والشرع منزه عن هذا، والنصوص وردت في حق الصحابة، وكانت أسفارهم مباحة، فلا يثبت الحكم فيمن سفره مخالف لسفرهم، ويتعين حمله على ذلك جمعاً بين النصين. وقياس المعصية على الطاعة بعيد لتضادهما. وأما الموضع الذي يبدأ منه المسافر بقصر الصلاة، فقال ابن قدامة: