ثم يقول: أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة، وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصل عليهم،
ــ
لكن النظر في الحديث يرده، بقي أنه ما معنى ذلك، والشهيد يدفن بثيابه التي كانت عليه، فكان هذا فيمن قطع ثوبه ولم يبق على بدنه أو بقي منه قليل لكثرة الجروح، وعلى تقدير بقاء شيء من الثوب السابق فلا إشكال، لكونه فاصلاً عن ملاقاة البشرة، وأيضاً قد اعتذر بعضهم عنه بالضرورة. وقال بعضهم: جمعهما في ثوب واحد هو أن يقطع الثوب الواحد بينهما-انتهى. (أيهم أكثر أخذاً للقرآن) بالنصب على التمييز في أخذاً. وفي رواية الترمذي: حفظاً للقرآن. (فإذا أشير له) أي للنبي - صلى الله عليه وسلم - (إلى أحدهما قدمه) أي ذلك الأحد. (في اللحد) بفتح اللام وسكون الحاء، أي الشق في عرض القبر جانب القبلة، سمى لحداً لأنه شق يعمل في ناحية القبر، مائلاً عن وسطه، قدر ما يوضع الميت في جهة القبلة، والإلحاد لغة الميل، وفيه دليل على جواز تكفين الرجل في ثوب واحد لأجل الضرورة، وفيه جمع الرجلين فصاعداً في لحد لأجل الضرورة، ففي رواية عبد الرزاق: كان يدفن الرجلين والثلاثة في قبر واحد. وروى أصحاب السنن عن هشام بن عامر الأنصاري قال: جاءت الأنصار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد فقالوا: أصابنا قرح وجهد، فقال: احفروا وأوسعوا واجعلوا الرجلين والثلاثة في قبر. صححه الترمذي، ومثله المرأتان والثلاث. وفيه أنه يقدم الأكثر أخذاً للقرآن على غيره لفضيلة القرآن، كنظيره في الإمامة في الحياة، ويقاس عليه سائر جهات الفضل إذا جمعوا في اللحد. (وقال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنا شهيد على هؤلاء) كلمة على في مثله تحمل على معنى اللام، أي أنا شفيع لهؤلاء وأشهد لهم بأنهم بذلوا أرواحهم وتركوا حياتهم لله تعالى، وفيه تشريف لهم وتعظيم وإلا فالأمر معلوم عنده تعالى. (ولم يصل عليهم) قال الحافظ في الفتح: هو مضبوط في روايتنا بفتح اللام، وهو اللائق بقوله بعد ذلك "ولم يغسلوا" وسيأتي من وجه آخر بلفظ: ولم يصل عليهم ولم يغسلهم، وهذه بكسر اللام، والمعنى ولم يفعل ذلك بنفسه ولا بأمره- انتهى. وفيه دليل على أنه لا يصلى على الشهيد المقتول في معركة الكفار، ويدل عليه أيضاً ما روى أحمد والترمذي وحسنه، وأبوداود والدارقطني والحاكم عن أنس: إن شهداء أُحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل عليهم-انتهى. وفي ذلك خلاف بين العلماء معروف، فقال مالك والشافعي وإسحاق وأحمد في المشهور عنه: بمنع الصلاة عليه عملاً بحديثي جابر وأنس. وقال الثوري وأبوحنيفة: يجب الصلاة عليه كسائر الأموات عملاً بعموم أدلة الصلاة على الميت، وبأحاديث رُويت في الصلاة على قتلى أحد حمزة وغيره من الشهداء، وقد سردها الزيلعي في نصب الراية، والحافظ في التلخيص، وبعضها حسن، وبما روى البخاري وغيره عن عقبة بن عامر: أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى على قتلى أحد، وبما روى أبوداود،