تقدم في الفصل الأول من هذا الباب في قصة شكوى سعد بن عبادة، وفيه "ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه". قال ابن حزم: فصح أن البكاء الذي يعذب به الإنسان ما كان منه باللسان. إذ يندبونه برياسته التي جاء فيها، وشجاعته التي صرفها في غير طاعة الله، وجوده الذي لم يضعه في الحق، فأهله يبكون عليه بهذه المفاخرة، وهو يعذب بذلك. وقال الإسماعيلي: كثر كلام العلماء في هذه المسألة، وقال: كل مجتهد على حسب ما قدر له، ومن أحسن ما حضرني وجه لم أرهم ذكروه، وهو أنهم كانوا في الجاهلية يغيرون ويسبون ويقتلون، وكان أحدهم إذا مات بكته باكية بتلك الأفعال المحرمة. فمعنى الخبر أن الميت يعذب بذلك الذي يبكى عليه أهله به؛ لأن الميت يندب بأحسن أفعاله، وكانت محاسن أفعالهم ما ذكر، وهي زيادة ذنب في ذنوبه يستحق العذاب عليها. قال الحافظ بعد ذكر هذه الوجوه الستة الأخيرة للجمع بين الحديثين ما لفظه: ويحتمل أن يجمع بين هذه التوجيهات، فينزل على اختلاف الأشخاص بأن يقال: مثلاً من كانت طريقته النوح، فمشى أهله على طريقته، أو بالغ فأوصاهم بذلك عذب بصنعه، ومن كان ظالماً فندب بأفعاله الجائرة عذب بما ندب به. ومن كان يعرف من أهله النياحة فأهمل نهيهم عنها. فإن كان راضياً بذلك إلتحق بالأول، وإن كان غير راض عذب بالتوبيخ كيف أهمل النهي، ومن سلم من ذلك كله واحتاط فنهى أهله عن المعصية، ثم خالفوه وفعلوا ذلك. كان تعذيبه تألمه بما يراه منهم من مخالفة أمره وإقدامهم على معصية ربهم، والله تعالى أعلم بالصواب. الثاني عشر: التفرقة بين حال البرزخ وحال يوم القيامة، فيحمل قوله تعالى:{ولا تزر وازرة وزر أخرى}[الإسراء:١٥] على يوم القيامة، وحديث التعذيب بالبكاء على البرزخ، ذكره الكرماني وحسنه، قال: ويؤيد ذلك أن مثل ذلك يقع في الدنيا، والإشارة إليه بقوله تعالى:{واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}[الأنفال:٢٥] فإنها دالة على جواز وقوع التعذيب على الإنسان بما ليس له فيه تسبب، فكذلك يمكن أن يكون الحال في البرزخ بخلاف يوم القيامة –انتهى. وفي هذا الجمع نظر، فإنه ينافيه لفظ يوم القيامة في حديث المغيرة بن شعبة فتفكر، وأرجع الأقوال وأحسن المذاهب في ذلك عندي هو قول من قال: إن الحديث المذكور في حق من له في بكاء غيره تسبب، بأن يكون البكاء من طريقته، أو أوصى به في حياته، أو عرف أن أهله يفعلون ذلك وأهمل النهي عن ذلك، وترك الزجر عنه. وأما إذا لم يكن له فيه تسبب أصلاً، فهو كما قالت عائشة:{لا تزر وازرة وزر أخرى} والله تعالى أعلم. (متفق عليه) واللفظ لمسلم. وأخرجه أحمد (ج٤:ص٢٤٥) والترمذي والطبراني والبيهقي (ج:ص٧٢) وفي الباب عن عمر وابن عمر، وسيأتيان، وعن أبي موسى الأشعري عند أحمد، وقد ذكرنا لفظه وعن عمران بن حصين عند ابن عبد البر، وعن سمرة عند أحمد والبزار.