فأمره أن ينههن، ثم أتاه الثانية لم يطعنه، فقال: إنههن، فأتاه الثالثة، قال: والله غلبننا يا رسول الله! فزعمت أنه قال: فأحث في أفواههن التراب،
ــ
وحذفت رضي الله عنها خبر "إن" من القول المحكي عن نساء جعفر لدلالة الحال عليه، يعني أن ذلك الرجل قال: إن نساء جعفر فعلن كذا وكذا مما حظره الشرع من البكاء المشتمل على رفع الصوت والنياحة-انتهى. وقد وقع عند النسائي "يبكين"، وعند أبي عوانة "قد كثر بكاؤهن"، وعند ابن حبان "قد أكثرن بكاءهن". (فأمره) عليه الصلاة والسلام. (أن ينهاهن) عن فعلهن. (فذهب) أي فنهاهن فلم يطعنه. (ثم أتاه) أي أتى الرجل النبي - صلى الله عليه وسلم - (الثانية) أي المرة الثانية فقال: إنهن (لم يطعنه) أي في ترك البكاء. قال الطيبي: قوله لم يطعنه حكاية لمعنى قول الرجل، أي فذهب ونهاهن ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: نهيتهن فلم يطعنني، يدل عليه قوله في المرة الثالثة: والله غلبننا، ووقع في رواية أبي عوانة: فذكر أنهن لم يطعنه. (انههن) بهمزة وصل مكسورة وفتح الهاء أمر من النهي. (فأتاه الثالثة) أي فذهب إليهن ونهاهن ولم يطعنه أيضاً، فأتاه المرة الثالثة. (غلبننا) بلفظ جمع المؤنث الغائبة، أي في عدم الامتثال لقوله؛ لكونه لم يصرح لهن بنهي الشارع، أو حملن الأمر على التنزيه، أو لشدة الحزن لم يستطعن ترك ذلك، وليس النهي عن البكاء فقط، بل الظاهر أنه على نحو النوح. (فزعمت) بالغيبة أي عائشة وهو مقول عمرة، والزعم قد يطلق على القول المحقق، وهو المراد هنا، قاله الحافظ. أي قالت عمرة: فزعمت أي قالت عائشة. (أنه) - صلى الله عليه وسلم - (قال) للرجل لما لم ينتهين: (وأحث) بضم المثلثة أمر من حثاً يحثو وبكسرها أيضاً من حثي يحثى أي ارم. (في أفواههن التراب) بالنصب أي ليسد محل النوح فلا يتمكن منه، أو المراد به المبالغة في الزجر. قال القرطبي: هذا يدل على أنهن رفعن أصواتهن بالبكاء، فلما لم ينتهين أمره أن يسد أفواههن بذلك، وخص الأفواه بذلك لأنها محل النوح بخلاف الأعين مثلاً. وقيل: لم يرد بالأمر حقيقته. قال عياض: هو بمعنى التعجيز أي أنهن لا يسكتن إلا بسد أفواههن، ولا يسدها إلا أن تملأ بالتراب، فإن أمكنك فافعل. وقال القرطبي: يحتمل أنهن لم يطعن الناهي لكونه لم يصرح لهن بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاهن، فحملن ذلك على أنه مرشد للمصلحة من قبل نفسه، أو علمن ذلك لكن غلب عليهن شدة الحزن لحرارة المصيبة، ثم الظاهر أنه كان في بكائهن زيادة على القدر المباح، فيكون النهي للتحريم، بدليل أنه كرره وبالغ فيه وأمر بعقوبتهن إن لم يسكتن، ويحتمل أن يكون بكاء مجرداً، والنهي للتنزيه، ولو كان للتحريم لأرسل غير الرجل المذكور لمنعهن؛ لأنه لم يقر على باطل، ويبعد تمادى الصحابيات بعد تكرار النهي على فعل الأمر المحرم. وفائدة نهيهن عن الأمر المباح خشية أن يسترسلن فيه، فيفضى بهن إلى الأمر لضعف صبرهن، فيستفاد منه جواز النهي عن المباح عند