حنطة شامية وصاعاً من شعير (الشعير والحنطة عند مالك صنف واحد) يريد أن يجيز بذلك البيع، فهذا لا يصلح لأنه لم يكن ليعطيه بصاع من شعير صاعاً من حنطة بيضاء لو كان ذلك الصاع مفرداً، وإنما أعطاه إياه لفضل الشامية فهذا لا يصلح إلى آخر ما قال، وعليك أن ترجع لشرح هذه الأمثلة إلى شروح المؤطا للزرقاني والباجي وغيرهما وما قاله الخطابي في الكلية الأولى، فهو موافق لمذهب الحنفية ومذهب الشافعي وغيره، لأن من القواعد المقررة أن للوسائل حكم المقاصد، فوسيلة الطاعة طاعة ووسيلة المعصية معصية. وأما ما قاله من الكلية الثانية، فإنما يليق بمذهب من منع الحيل للتوسل بها إلى الخروج من الربا أو غيره، كمالك وأحمد. وأما أبوحنيفة والشافعي فهما يريان إباحة الحيل فلا ينظران إلى هذا الدخيل. واستدل لهما بما سيأتي في باب الربوا من حديث أبي سعيد وأبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلاً على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال لا والله يا رسول الله! إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال: لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً- انتهى. ونحوه حديث أبي سعيد في قصة بلال، وسيأتي أيضا في ذلك الباب. قال القاري: أفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن كل عقد توسط في معاملة أخرجها عن المعاملة المؤدية إلى الربوا جائز؟ وقال أيضاً هذا الحديث (يعني حديث أبي سعيد في قصة بلال) كالذي قبله صريح في جواز الحيلة في الربوا الذي قال به أبو حنيفة والشافعي. وبيانه أنه - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يبيع الردى بالدراهم ثم يشتري بها الجيد من غير أن يفصل في أمره بين كون الاشتراء من ذلك المشتري أو من غيره، بل ظاهر السياق أنه بما في ذمته، وإلا لبينه له- انتهى. وأجيب عن هذا الاستدلال بأن قوله - صلى الله عليه وسلم - بع الجمع مطلق لا عام، والمطلق لا يشمل، ولكن يشيع، فإذا عمل به في صورة سقط الاحتجاج به فيما عداها، ولا يصح الاستدلال به على جواز الشراء ممن باعه تلك السلعة بعينها، هذا ملخص ما ذكره الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين في الجواب عن هذا الاستدلال، وقد أطال فيه جداً وبسط الكلام أيضاً على سد الذرائع وإبطال الحيل، فعليك أن ترجع إليه وإلى إرشاد الفحول (ص١٧- ١٨) للشوكاني. والفروق للقرافي (ج٢ ص٣٩، ٤١) وقال القرطبي: استدل بهذا الحديث من لم يقل بسد الذرائع، لأن بعض صور هذا البيع يؤدي إلى بيع التمر بالتمر متفاضلاً، ويكون الثمن لغواً، قال: ولا حجة في هذا الحديث، لأنه لم ينص على جواز شراء التمر الثاني ممن باعه التمر الأول ولا يتناوله ظاهر السياق بعمومه، بل بإطلاقه، والمطلق يحتمل التقييد إجمالاً، فوجب الاستفسار، وإذا كان كذلك فتقييده بأن دليل كاف، وقد دل الدليل على سد الذرائع، فلتكن هذه الصورة ممنوعة- انتهى. وسيأتي مزيد الكلام في هذا في الباب الربوا إنشاء الله تعالى.