فالجمع بينه وبين حديثهما أن يحمل حديث أبي قتادة على غير الحاج، أو على من لم يضعفه صيامه عن الذكر والدعاء المطلوب للحاج كما سيأتي تفصيل ذلك. قال الزرقاني: فطر يوم عرفة للحاج أفضل من صومه لأنه الذي أختاره - صلى الله عليه وسلم - لنفسه، وللتقوى على حمل الحج، ولما فيه من العون على الإجتهاد في الدعاء والتضرع المطلوب في ذلك الموضع، ولذا قال الجمهور يستحب فطره للحاج، وإن كان قوياً، ثم اختلفوا هل صومه مكروه وصححه المالكية أو خلاف الأولى وصححه الشافعية، وتعقب بأن فعله المجرد لا يدل على عدم استحباب صومه إذ قد يتركه لبيان الجواز ويكون في حقه أفضل لمصلحة التبليغ. وأجيب بأنه قد روى أبوداود والنسائي وصححه ابن خزيمة والحاكم عن أبي هريرة قال: نهى - صلى الله عليه وسلم - عن صوم عرفة بعرفة. وأخذ بظاهره قوم منهم يحيى بن سعيد الأنصاري فقال: يجب فطره للحاج، والجمهور على استحبابه حتى قال عطاء كل من أفطره ليتقوى به على الذكر كان له مثل أجر الصائم-انتهى. وقال الحافظ: روى عن ابن الزبير وأسامة بن زيد وعائشة أنهم كانوا يصومونه أي بعرفة، وكان ذلك يعجب الحسن، ويحكيه عن عثمان وعن قتادة مذهب آخر قال لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء، ونقله البيهقي في المعرفة عن الشافعي في القديم، واختاره الخطابي والمتولى من الشافعية-انتهى. قلت: قال الخطابي في المعالم (ج٢:ص١٣١) بعد ذكر حديث أبي هريرة في النهى عن الصوم بعرفة ما لفظه: هذا نهى إستحباب لا نهى إيجاب، وإنما نهى المحرم عن ذلك خوفاً عليه أني يضعف عن الدعاء والإبتهال في ذلك المقام، فأما من وجد قوة ولا يخاف معها ضعفاً فصوم ذلك اليوم أفضل له إن شاء الله، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - صيام يوم عرفة يكفر سنتين سنة قبلها وسنة بعدها-انتهى. وقال ابن قدامة (ج٣:ص١٧٦) أكثر أهل العلم يستحبون الفطر يوم عرفة بعرفة وكانت عائشة وابن الزبير يصومانه. وقال قتادة: لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء. وقال عطاء: أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف، لأن كراهة صومه إنما هي معللة بالضعف عن الدعاء. فإذا قوى عليه أو كان في الشتاء لم يضعف فتزول الكراهة، ولنا ما روى عن أم الفضل يعني حديث الباب. وقال ابن عمر: حججت مع النبي فلم يصمه يعني يوم عرفة ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه، ومع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه، أخرجه الترمذي وحسنه. وروى أبوداود عن أبي هريرة النهى عنه، ولأن الصوم يضعفه ويمنعه الدعاء في هذا المعظم الذي يستجاب فيه الدعاء في ذلك الموقف الشريف فكان تركه أفضل-انتهى. وسيأتي شيء من الكلام في هذه المسألة في شرح حديث أبي هريرة في الفصل الثاني وقد ذكر لفطره - صلى الله عليه وسلم - بعرفة عدة حكم. منها أنه أقوى على الدعاء، ومنها إن الفطر في السفر أفضل في فرض الصوم فكيف بنفله، ومنها إن ذلك اليوم كان يوم الجمعة وقد نهى عن أفراده بالصوم، فأحب أن يرى الناس فطره فيه تأكيداً لنهيه عن تخصيصه بالصوم وإن كان صومه لكونه يوم عرفة لا يوم جمعة.