قال العيني: والأصل عندنا أن النهي لا ينفي مشروعية الأصل وعلى هذا الأصل مشى أصحابنا فيما ذهبوا إليه، ويؤيد هذا ما رواه البخاري عن زياد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عمر فقال: نذر رجل صوم الاثنين فوافق يوم عيد. فقال ابن عمر أمر الله بوفاء النذر، ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم هذا اليوم. قال ابن عبد الملك: لو كان صومه ممنوعا منه لعينه ما توقف ابن عمر في الفتيا-انتهى. قلت أمر ابن عمر رضي الله عنه في التورع عن بتّ الحكم، ولا سيما عند تعارض الأدلة مشهور، ويحتمل أن يكون ابن عمر أشار إلى قاعدة إن الأمر والنهي إذا التقيا في محل واحداً أيهما يقدم والراجح يقدم النهي، فكأنه قال لا تصم، وقيل: نبه ابن عمر على أن الوفاء بالنذر عام. والمنع من صوم العيد خاص، فكأنه أفهمه أنه يقضي بالخاص على العام. وتعقب هذا بأن النهي عن صوم يوم العيد أيضاً عموم للمخاطبين، ولكل عيد فلا يكون من قضاء الخاص على العام. وقال الداودي: المفهوم من كلام ابن عمر تقديم النهي، لأنه قد روى أمر من نذر أن يمشي في الحج بالركوب، فلو كان يجب الوفاء به لم يأمره بالركوب-انتهى. قال الحافظ: وأصل الخلاف في هذه المسألة أن النهي هل يقتضي صحة المنهي عنه قال الأكثر لا، وعن محمد بن الحسن نعم، واحتج بأنه لا يقال للأعمى لا يبصر، لأنه تحصيل الحاصل. فدل على أن صوم يوم العيد ممكن، وإذا أمكن ثبت الصحة، وأجيب بأن الإمكان المذكور عقلي والنزاع في الشرعي والمنهي عنه شرعاً غير ممكن فعله شرعاً، ومن حجج المانعين أن النفل المطلق إذا نهى عن فعله لم ينعقد، لأن المنهي مطلوب الترك سواء كان للتحريم أو التنزيه، والنفل مطلوب الفعل، فلا يجتمع الضدان، والفرق بينه وبين الأمر ذي الوجهين كالصلاة في الدار المغصوبة (أي على القول بصحتها وإلا فقد ذهب أحمد في أشهر القولين عنه إلى عدم صحتها كما في المغنى (ج٢ص٧٤) وروضة الناظر (ج١ص١٢٧) أن النهي عن الإقامة المغصوبة ليست لذات الصلاة بل للإقامة وطلب الفعل لذات العبادة بخلاف صوم يوم النحر مثلا، فإن النهي فيه لذات الصوم فافترقا-انتهى. وفي آخر كلام الحافظ نظر فتأمل وارجع لبسط الكلام في مسألة النهي إلى كتب الأصول كأصول البزدوي مع شرحه كشف الأسرار، وإلى إرشاد الفحول وغيرهما. والراجح عندي في المسألة الأولى هو ما ذهب إليه مالك والشافعي وأحمد من عدم انعقاد النذر وعدم صحته، لأنه نذر معصية. والنذر إنما يكون في الطاعة دون المعصية فلا ينعقد هذا النذر، ولا يصح، كما لا يصح من الحائض لو نذرت أن تصوم أيام حيضها، ولم يأمر الله تعالى قط بالوفاء بنذر معصية فلا يلزم قضاءه. وقد وقع في رواية لمسلم لا يصلح الصيام في يومين يوم الأضحى ويوم الفطر من رمضان، وهذا كالنص على بطلان صوم العيدين، وإن يومي العيد ليسا بمحل للصوم شرعاً، لأن حقيقة ذلك الخبر، فهو يحمل على حقيقته ما لم يصرف عنها صارف فاقتضي ذلك إخباراً من النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذين اليومين لا يصلح فيهما الصيام،