وقيل القدر هنا بمعنى القدر بفتح الدال الذي هو مؤاخى القضاء، والمعنى أنه يقدر فيها أحكام تلك السنة لقوله تعالى:{فيها يفرق كل أمر حكيم}[الدخان: ٤] وبه صدر النووي كلامه فقال قال العلماء: سميت ليلة القدر لما يكتب فيها الملائكة من الأقدار التي تكون في تلك السنة لقوله تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} وتقدير الله تعالى سابق فهي ليلة إظهار الله تعالى ذلك التقدير للملائكة. وقال التوربشتي: إنما جاء القدر بتسكين الدال وإن كان الشائع في القدر الذي هو مؤاخى القضاء وقرينه فتح الدال ليعلم أنه لم يرد به ذلك فإن القضاء سبق الزمان. وإنما أريد به تفصيل ما جرى به القضاء وتبيينه، وتحديده في المدة التي بعدها إلى مثلها من القابل ليحصل ما يلقي إليهم فيها مقدار بمقدار. ثم الجمهور على أنها مختصة بهذه الأمة ولم تكن لمن قبلهم. قال الحافظ: وجزم به ابن حبيب وغيره من المالكية (كالباجي وابن عبد البر) ونقله الجمهور صاحب العدة من الشافعية ورجحه. وقال النووي إنه الصحيح المشهور الذي قطع به أصحابنا كلهم وجماهير العلماء. قال الحافظ: وهو معترض بحديث أبي ذر عند النسائي حيث قال فيه قلت يا رسول الله! أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت قال لا، بل هي باقية وعمدتهم قول مالك في الموطأ، بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقاصر أعمار أمته من أعمار الأمم الماضية فأعطاه الله ليلة القدر، وهذا يحتمل التأويل فلا يدفع الصريح في حديث أبي ذر-انتهى. قلت: حديث أبي ذر ذكره ابن قدامة (ج٣ص١٧٩) من غير أن يعزوه لأحد بلفظ: قال قلت يا رسول الله ليلة القدر رفعت مع الأنبياء أو هي باقية إلى يوم القيامة قال باقية إلى يوم القيامة-الحديث. وأخرجه البزار بنحوه كما في مجمع الزوائد (ج٣ص١٧٧) ورواه البيهقي (ج٤ص٣٠٧) بلفظ: قلت يا نبي الله أتكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبضت الأنبياء ورفعوا رفعت معهم أو هي إلى يوم القيامة قال لا، بل هي إلى يوم القيامة. وأما أثر الموطأ فقال مالك فيه إنه سمع من يثق به من أهل العلم يقول إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرى أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر. قال ابن عبد البر: هذا أحد الأحاديث التي أنفرد بها مالك لا يوجد مسنداً ولا مرسلاً فيما علمت إلا من الموطأ، وهذا أحد الأحاديث الأربعة التي لا توجد مسندة ولا مرسلة من إرسال تابعي ثقة قال، وليس منها حديث منكر ولا ما يدفعه أصل-انتهى. قلت: وأثر الموطأ المذكور يدل على أن إعطاء ليلة القدر كان تسلية لهذه الأمة القصيرة الأعمار ويشهد لذلك روايات أخرى مرسلة ذكرها العيني في العمدة (ج١١ص١٢٩، ١٣٠) والسيوطي في الدر والقسطلاني (ج٥ص٧، ٨) وقد اختلف العلماء في تعيينها على أقوال كثيرة بلغها الحافظ في الفتح إلى أكثر من أربعين قولاً وأكثرها يتداخل وفي الحقيقة يقرب من خمسة وعشرين نقتصر منها على ذكر الأقوال المشهورة سيما ما نسب إلى الأئمة الأربعة.