فإنما أنا بشر، فأي المؤمنين آذيته: شتمته لعنته جلدته فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك
يوم القيامة)) .
ــ
أصل الكلام إني طلبت منك حاجة اسعفني بها ولا تخيبني فيها، فوضع العهد موضع الحاجة مبالغة في كونها مقضية ووضع لن تخلفنيه موضع لا تخيبني. وقيل وضع العهد موضع الوعد مبالغة وإشعاراً بأنه وعد لا يتطرق إليه الخلف كالعهد ولذلك استعمل فيه الخلف لا النقض لزيادة التأكيد. وقيل أراد بالعهد الأمان، والمعنى أسألك أماناً لن تجعله خلاف ما أترقبه وأرتجيه بأن تجعل ما بدر مني مما يناسب ضعف البشرية إلى مؤمن من أذية أنحوها نحوه أو دعوة أدعوا بها عليه قربة تقربه بها إليك، فإنما أنا بشر أتكلم في الرضا والغضب فلا آمن أن أدعوا على مسلم فيستضر به، وهذه الرأفة التي أكرم الله بها وجهه حتى حظي بها المسيء فما ظنك بالمحسن، وإنما وضع الاتخاذ موضع السؤال تحقيقاً للرجاء بأنه حاصل إذ كان موعوداً بإجابة الدعاء، ولهذا قال لن تخلفنيه أحل العهد المسؤل محل الشيء الموعود. ثم أشار إلى أن وعد الله لا يتأتي فيه الخلف فإن الألوهية تنافيه (فإنما أنا بشر) تمهيد لمعذرته فيما يندر عنه صلوات الله وسلامه عليه، يعني فيصدر مني ما يصدر من البشر، فأغضب نادراً في بعض الأحيان بحكم البشرية (فأي المؤمنين) وفي رواية فأي رجل من المسلمين وهو بيان وتفصيل لما كان يلتمسه - صلى الله عليه وسلم - بقوله اتخذت عندك عهداً (آذيته) أي بأي نوع من أنواع الأذى (شتمته إلخ) بيان لقوله آذيته وتفصيل له، ولذا لم يعطف. ومن ثم أفرد الضمير في فاجعلها رداً إلى الأذية. (لعنته جلدته) أي ضربته. قال الطيبي: ذكر هذه الأمور أي أنواع الإيذاء الثلاثة على سبيل التعداد من غير عاطف كقولك واحد اثنان ثلاثة، وقابلها بما يقابلها من أنواع التعطف والألطاف متناسقة أي بإثبات العاطف ليجمعها بإزاء كل واحد من تلك الأمور على سبيل الاستقلال، وليس من باب اللف والنشر - انتهى. قلت: وقع في الروايات الأخرى ذكر هذه الأمور بلفظ: "أو" ففي رواية لمسلم فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها له كفارة وقربة، وفي أخرى له فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلها زكاة ورحمة، وفي حديث عائشة فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعله زكاة وأجراً (فاجعلها) أي تلك الأذية التي صدرت بمقتضى ضعف البشرية. وقيل: أي الكلمات المفهمة شتماً أو نحو لعنة (له) أي لمن آذيته من المؤمنين (صلاة) أي رحمة ورأفة تخصه بها وإكراماً وتلطفاً وتعطفاً توصله به إلى المقامات العلية (وزكاة) أي طهارة له من الذنوب ونماء وبركة في الأعمال والأموال (وقربة تقربه) أي تجعل ذلك المؤمن مقرباً (بها) أي بتلك القربة أو بكل واحدة من الصلاة وأختيها (إليك يوم القيامة) أي ولا تعاقبه بها في العقبى. ووقع في حديث أنس عند مسلم تقييد المدعو عليه بأن يكون ليس لذلك بأهل، ولفظه إنما أنا بشر أرضى كما يرضي البشر وأغضب كما يغضب البشر فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها