للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

..............................................................................................

ــ

يأخذه، ولله المثل الأعلى إذ هذا شأن الجواد من الخلق فإنه يحصل له من الفرح والسرور والابتهاج واللذة بعطائه، وجوده فوق ما يحصل لمن يعطيه، ولكن الآخذ غائب بلذة أخذه عن لذة المعطى وابتهاجه وسروره. هذا مع كمال حاجته إلى ما يعطيه وفقره إليه وعدم وثوقه باستخلاف مثله، وخوف الحاجة إليه عند ذهابه والتعرض لذل الاستعانة بنظيره ومن هو دونه، ونفسه قد طبعت على الحرص والشح، فما الظن بمن تقدس وتنزه عن ذلك كله؟ ولو أن أهل سماواته وأرضه وأول خلقه وآخرهم وإنسهم وجنهم ورطبهم ويابسهم قاموا في صعيد واحدٍ فسألوه فأعطى كلاً ما سأله ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة، وهو الجواد لذاته كما أنه الحي لذاته العليم لذاته السميع البصير لذاته، فجوده العالي من لوازم ذاته، والعفو أحب إليه من الانتقام، والرحمة أحب إليه من العقوبة، والفضل أحب إليه من العدل، والعطاء أحب إليه من المنع، فإذا تعرض عبده ومحبوبة الذي خلقه لنفسه وأعد له أنواع كرامته وفضله على غيره وجعله محل معرفته وأنزل إليه كتابه، وأرسل إليه رسوله واعتنى بأمره، ولم يهمله ولم يتركه سدى، فتعرض لغضبه وارتكب مساخطه وما يكرهه وأبق منه، ووالى عدوه وظاهره عليه، وتحيز إليه وقطع طريق نعمه وإحسانه إليه التي هي أحب شيء إليه، وفتح طريق العقوبة والغضب والانتقام فقد استدعى من الجود الكريم خلاف ما هو موصوف به من الجود والإحسان والبر، وتعرض لإغضابه وإسخاطه وانتقامه، وأن يصير غضبه وسخطه في موضع رضاه، وانتقامه وعقوبته في موضع كرمه وبره وعطاءه، فاستدعى بمعصيته من أفعاله ما سواه أحب إليه منه، وخلاف ما هو من لو لزم ذاته من الجود والإحسان. فبينما هو حبيبه المقرب المخصوص بالكرامة إذا انقلب آبقًا شاردًا رادًا لكرامته، مائلاً عنه إلى عدوه مع شدة حاجته إليه، وعدم استغناءه عنه طرفة عين، فبينما ذلك الحبيب مع العدو في طاعته وخدمته ناسيًا لسيده، منهمكًا في موافقة عدوه، قد استدعى من سيده خلاف ما هو أهله إذ عرضت له فكرة فتذكر بر سيده وعطفه وجوده وكرمه، وعلم أنه لا بد له منه، وأن مصيره إليه، وعرضه عليه، وإنه لم يقدم عليه بنفسه قدم به عليه، على أسوأ الأحوال، ففر إلى سيده من بلد عدوه وجد في الهرب إليه حتى وصل إلى بابه فوضع خده على عتبة بابه وتوسد ثرى أعتابه متذللاً متضرعًا خاشعًا باكيًا آسفًا، يتملق سيده ويسترحمه ويستعطفه ويعتذر إليه، قد ألقى بيده إليه، واستسلم له وأعطاه قياده، وألقى إليه زمانه، فعلم سيده ما في قلبه فعاد مكان الغضب عليه رضا عنه، ومكان الشدة عليه رحمة به، وأبدله بالعقوبة عفوًا، وبالمنع عطاءً وبالمؤاخذة حلمًا، فاستدعى بالتوبة الرجوع من سيده ما هو أهله وما هو موجب أسماءه الحسنى وصفاته العلى، فكيف يكون فرح سيده به، وقد عاد إليه حبيبه ووليه طوعًا واختيارًا، وراجع ما يحبه سيده منه ويرضاه، وفتح طريق البر والإحسان والجود التي هي أحب إلى سيده من طريق الغضب والانتقام والعقوبة؟ وهذا موضع الحكاية المشهورة عن بعض العارفين

<<  <  ج: ص:  >  >>