أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فيها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف
ــ
والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة. قال القرطبي: يجوز أن يكون معنى خلق اخترع أوجد، ويجوز أن يكون بمعنى قدر، وقد ورد خلق بمعنى قدر في لغة العرب، فيكون المعنى إن الله أظهر لذلك يوم أظهر تقدير السماوات والأرض، وقوله كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، المراد بها التعظيم والتكثير. وقد ورد التعظيم بهذا اللفظ في اللغة والشرع كثيرًا، والمراد بالرحمة في قوله:((إن لله مائة رحمة)) بمقتضى الروايات المذكورة هي التي جعلها في عباده، وهي مخلوقة، وأما الرحمة التي هي صفة من صفاته فهي قائمة بذاته تعالى غير مخلوقة. وقال الطيبي: رحمه الله تعالى لا نهاية لها فلم يرد بما ذكره تحديدًا بل تصويرًا للتفاوت بين قسط أهل الإيمان منها في الآخرة، وقسط كافة المربوبين في الدنيا - انتهى. وقال في اللمعات: لعل المراد أنواعها الكلية التي تحت كل نوع منها أفراد غير متناهية، أو المراد ضرب المثل لبيان المقصود (من قلة ما عند الناس وكثرة ما عند الله) تقريبًا إلى فهم الناس أو هو من قبيل قوله: ((إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة)) في أن الحصر باعتبار هذا الوصف فافهم. وقال القرطبي: مقتضى هذا الحديث إن الله علم أن أنواع النعم التي ينعم بها على خلقه مائة نوع فأنعم عليهم في هذه الدنيا بنوع واحد انتظمت به مصالحهم وحصلت به مرافقهم، فإذا كان يوم القيامة كمل لعباده المؤمنين ما بقي فبلغت مائة وكلها للمؤمنين، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً}(الأحزاب: ٤٣) فإن رحيمًا من أبنية المبالغة التي لا شيء فوقها. ويفهم من هذا أن الكفار لا يبقى لهم حظ من الرحمة لا من جنس رحمات الدنيا ولا من غيرها، إذا كمل كل ما كان في علم الله من الرحمة للمؤمنين، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}(الأعراف: ١٥٦) الآية قال الحافظ: أما مناسبة خصوص عدد المائة فيحتمل أن تكون مناسبة هذا العدد الخاص لكونه مثل عدد درج الجنة، والجنة هي محل الرحمة فكان كل رحمة بإزاء درجة، وقد ثبت أنه لا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله تعالى فمن نالته منها رحمة واحدة، كان أدنى أهل الجنة منزلة، وأعلاهم منزلة من حصلت له جميع الأنواع من الرحمة (أنزل منها) أي من جملة المائة (رحمة واحدة) وفي رواية، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة. قال القاري: الإنزال تمثيل مشير إلى أنها ليست من الأمور الطبيعية، بل هي من الأمور السماوية مقسومة بحسب قابلية المخلوقات (بين الجن) أي بعضهم مع بعض (والإنس) كذلك (والبهائم) أي مع أولادها (والهوام) بتشديد الميم جمع هامة، وهي كل ذات سم، وقد يقع على ما يدب من الحيوان وإن لم يقتل كالحشرات كذا في النهاية والله أعلم برحمتها فيما لا توالد فيها (فبها) أي بتلك الرحمة الواحدة وبسبب خلقها فيهم (يتعاطفون) أي يتمايلون فيما بينهم (وبها يتراحمون) أي بعضهم على بعض (وبها تعطف) بكسر الطاء