والعمرة بعد الشروع فيهما، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء، وأجمع أهل العلم على مشروعيتها كالحج، واستدل القائلون بعدم الوجوب بما رواه الترمذي وصححه. وأحمد، والبيهقي وغيرهم عن جابر أن أعرابيًا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أخبرني عن العمرة أواجبة هي؟ فقال: لا وأن تعتمر خير لك. وفى رواية: أولى لك. وأجيب عنه بأن في إسناده الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف. وتصحيح الترمذي له فيه نظر، لأن الأكثر على تضعيف الحجاج، واتفقوا على أنه مدلس على أن تصحيح الترمذي له إنما ثبت في رواية الكروخي فقط، وقد نبه صاحب الإمام على أنه لم يزد على قوله حسن في جميع الروايات عنه إلا في رواية الكروخي. وقد رواه البيهقي من حديث سعيد بن عفير عن يحيى بن أيوب عن عبد الله عن أبي الزبير عن جابر بنحوه. ورواه ابن جريج عن ابن المنكدر عن جابر، ورواه ابن عدي من طريق أبى عصمة عن ابن المنكدر عن أبى صالح، وأبو عصمة قد كذبوه. وفى الباب عن أبي هريرة عند الدارقطني، وابن حزم، والبيهقي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الحج جهاد والعمرة تطوع. وإسناده ضعيف كما قال الحافظ. وعن طلحة عند ابن ماجة بنحوه بإسناد ضعيف، وعن ابن عباس عند البيهقي. قال الحافظ: ولا يصح من ذلك شيء. قال الشوكانى: وبهذا تعرف أن الحديث من قسم الحسن لغيره وهو محتج به عند الجمهور، ويؤيده ما عند الطبراني عن أبي أمامة مرفوعًا: من مشى إلى صلاة مكتوبة فأجره كحجة، ومن مشى إلى صلاة تطوع فأجره كعمرة. قلت: ولما اختلفت الأدلة في إيجاب العمرة وعدمه اختلف العلماء في ذلك سلفًا وخلفًا، فذهب عمرو، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وابن عمرو، وسعيد ابن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، والحسن، وابن سيرين، والشعبي إلى وجوبها. وبه قال الثوري، وإسحاق، والشافعي، وأحمد في أحد قوليهما. واختاره البخاري في صحيحه. وروي عن ابن مسعود: أن العمرة ليست واجبة. وبه قال مالك، وأبو ثور، وأبو حنيفة وهو أحد قول الشافعي وأحمد واختيار ابن تيمية. وقال الشوكاني بعد ذكر أدلة الفريقين: والحق عدم وجوب العمرة لأن البراءة الأصلية لا ينتقل عنها إلا بدليل يثبت به التكليف، ولا دليل يصلح لذلك لا سيما مع اعتضادها بما تقد م من الأحاديث القاضية بعدم الوجوب، ويؤيد ذلك اقتصاره - صلى الله عليه وسلم - على الحج في حديث:((بني الإسلام على خمس)) واقتصار الله جل جلاله على الحج في قوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} قلت: ويؤيده أيضًا قوله - صلى الله عليه وسلم - للذي قال:((لا أزيد عليهن ولا انقص)) لئن صدق ليدخلن الجنة. وقال شيخنا الأجل المباركفوري بعد ذكر دلائل وجوب العمرة: والظاهر هو وجوب العمرة والله أعلم. وقال الشنقيطي بعد ذكر كلام الشوكانى: الذي يظهر لي أن ما احتج به كل واحد من الفريقين لا يقل عن درجة الحسن لغيره فيجب الترجيح بينهما، وقد رأيت الشوكاني رجح عدم الوجوب بموافقته للبراءة الأصلية، والذي يظهر بمقتضى الصناعة الأصولية ترجيح أدلة الوجوب على أدلة عدم الوجوب، وذلك من ثلاثة أوجه: الأول أن أكثر أهل الأصول يرجحون الخبر الناقل عن الأصل على الخبر المبقي على البراءة الأصلية. الثاني أن جماعة من أهل الأصول