بعض أصحاب المغازي أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه حين رأوا هلال ذي القعدة أن يعتمروا قضاء لعمرتهم التي صد عنها المشركون بالحديبية وأن لا يتخلف أحد ممن شهد الحديبية فلم يتخلف أحد منهم إلا من استشهد منهم بخيبر ومن مات وادعى تواتر الأخبار بذلك، فهو مجرد دعوى فلا يلتفت إليها. قلت: واستدل لوجوب القضاء أيضًا لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} فإنه يقتضي وجوب الإتمام من غير فرق بين حج الفرض والنفل ولا يخفى ما فيه، وبحديث حجاج بن عمرو الأنصاري الآتي بدون التفريق بينهما، وبحديث عائشة إذ أمرها - صلى الله عليه وسلم - برفض العمرة ثم اعمرها من التنعيم وقال: هذه مكان عمرتك. وقد تقدم الجواب عن حديث الحجاج بن عمرو في كلام الشنقيطي المذكور في أول الباب، وسيأتي أيضًا عند شرحه، وأما حديث عائشة فقد سبق الكلام فيه مفصلاً في باب قصة حجة الوداع فراجعه، واستدل أيضًا بقوله ((فيهدي)) على وجوب الهدي على المحصر في الحج. قال الشوكاني: ولكن الإحصار الذي وقع في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما وقع في العمرة فقاس العلماء الحج على ذلك، وهو من الإلحاق بنفي الفارق، وإلى وجوب الهدي ذهب الجمهور، وهو ظاهر الأحاديث الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه فعل ذلك في الحديبية، ويدل عليه قوله تعالى:{فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} وذكر الشافعي أنه لا خلاف في ذلك في تفسير الآية، وخالف في ذلك مالك فقال: أنه لا يجب الهدي على المحصر، وعول على قياس الإحصار على الخروج من الصوم للعذر والتمسك بمثل هذا القياس في مقابل ما يخالفه من القرآن والسنة من الغرائب التي يتعجب من وقوع مثلها من أكابر العلماء - انتهى كلام الشوكاني. وقال ابن قدامة (ج ٣: ص ٣٥٦) وعلى من تحلل بالإحصار (في الحج أو العمرة) الهدي في قول أكثر أهل العلم، وحكي عن مالك: ليس عليه هدي لأنه تحلل أبيح له من غير تفريط أشبه من أتم حجه، وليس بصحيح لأن الله تعالى قال:{فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} قال الشافعي: لا خلاف بين أهل التفسير أن هذه الآية نزلت في حصر الحديبية ولأنه أبيح له التحلل قبل إتمام نسكه فكان عليه الهدي كالذي فاته الحج، وبهذا فارق من أتم حجه. قال: وإذا قدر المحصر على الهدي فليس له الحل قبل ذبحه، فإن كان معه هدي قد ساقه أجزأه، وإن لم يكن معه لزمه شراءه إن أمكنه - انتهى. وقال النووي في مناسكه: يلزم المتحلل بالإحصار ذبح شاة يفرقها حيث أحصر - انتهى. وفي شرح المنهاج: من أراد التحلل بالإحصار ذبح وجوبًا شاة أو سبع بدنة أو بقرة حيث أحصر ولو في الحل - انتهى. وقال في الهداية: إذا أحصر المحرم فمنعه من المضى جاز له التحلل، ويقال له: ابعث شاة تذبح في الحرم وواعد من تبعثه بيوم بعينه يذبح فيه ثم تحلل. وفي شرح اللباب: إذا أحصر المحرم بحجة أو عمرة وأراد التحلل أي الخروج من إحرامه يجب عليه أن يبعث الهدي - إلى آخر ما بسطه. وقال الباجي: أما تحلله للحصر فلا يوجب هديًا عند مالك. وبه قال ابن القاسم. وقال أشهب عليه الهدي، وبه