فهو تمثيل في تحريمه بأقرب متصور لعموم البشر، إذ ليس كلهم يفهم معنى تحريمه في الأزل وليس تحريمه مما أحدثه الناس أو اختص بشرعه، وهذا لا ينافي قوله في حديث جابر عند مسلم وحديث أنس عند البخاري " إن إبراهيم حرم مكة "، لأن إسناد التحريم إليه من حيث أنه مبلغه فإن الحاكم بالشرائع والأحكام كلها هو الله تعالى، والأنبياء يبلغونها، فكما تضاف إلى الله تعالى من حيث أنه الحاكم بها تضاف إلى الرسل لأنها تسمع منهم وتبين على ألسنتهم، والحاصل أنه أظهر تحريمها مبلغًا عن الله بعد أن كان مهجورًا إلا أنه ابتدأه، وقيل إن حرمها بإذن الله يعني أنه تعالى كتب في اللوح المحفوظ يوم خلق السماوات والأرض أن إبراهيم سيحرم مكة بأمر الله تعالى، كذا في إرشاد الساري. وقال العيني: معنى قوله ((إن إبراهيم حرم مكة)) أعلن بتحريمها وعرف الناس بأنها حرام بتحريم الله إياها فلما لم يعرف تحريمها إلا أن في زمانه على لسانه أضيف إليه، وذلك كما في قوله تعالى:{الله يتوفى الأنفس}(سورة الزمر: الآية ٤٣) فإنه أضاف إليه التوفي، وفي آية أخرى:{قل يتوفاكم ملك الموت}(سورة السجدة: الآية ١١) فأضاف إلى الملك التوفي، وقال في آية أخرى:{الذين تتوفاهم الملائكة} سورة النحل: الآية ٣٠، ٣٤) فأضاف إليهم التوفي، وفي الحقيقة المتوفي هو الله عز وجل، وأضاف إلى غيره لأنه ظهر على أيديهم – انتهى. وقال الحافظ: لا معارضة بين الحديثين لأن معنى قوله ((إن إبراهيم حرم مكة)) أي بأمر الله تعالى لا باجتهاده، أو أن الله قضى يوم خلق السماوات والأرض أن إبراهيم سيحرم مكة أو المعنى أن إبراهيم أول من أظهر تحريمًا بين الناس، وكانت قبل ذلك عند الله حرامًا، أو أول من أظهره بعد الطوفان، وقال القرطبي: معناه: إن الله حرم مكة ابتداء من غير سبب ينسب لأحد ولا لأحد فيه مدخل، قال: ولأجل هذا أكد المعنى بقوله (في حديث أبي شريح الآتي) : ولم يحرمها الناس. والمراد بقوله ((ولم يحرمها الناس)) أن تحريمها ثابت بالشرع لا مدخل للعقل فيه، أو المراد أنها من محرمات الله فيجب امتثال ذلك وليس من محرمات الناس يعني في الجاهلية كما حرموا أشياء من عند أنفسهم فلا يسوغ الاجتهاد في تركه، وقيل معناه: إن حرمتها مستمرة من أول الخلق، وليس مما اختصت به شريعة النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ: واستدل بالحديث على اشتراط الإحرام على من دخل الحرم. قال القرطبي: معنى قوله ((حرمه الله)) أي يحرم على غير المحرم دخوله حتى يحرم، ويجري هذا مجرى قوله تعالى:{حرمت عليكم أمهاتكم}(سورة النساء: الآية ٢٧) أي وطؤهن {حرمت عليكم الميتة}(سورة المائدة: الآية ٤) أي أكلها. فعرف الاستعمال يدل على تعيين المحذوف. قال: وقد دل على صحة هذا المعنى اعتذاره عن دخول مكة غير محرم مقاتلاً بقوله ((لم تحل لي إلا ساعة من نهار)) الحديث - انتهى. وقد تقدم بسط القول في هذه المسألة في شرح حديث ابن عباس في بيان المواقيت (ج ٦: ص ٢٤٣ إلى ٢٤٦) وتقدم الجواب هناك عن الاستدلال بهذا الحديث على منع دخول الحرم بغير إحرام فتذكر (فهو) أي البلد (حرام) أي محرم محترم (بحرمة الله)