أصحابنا: قوله عليه الصلاة والسلام ((أحرم)) من الحرمة لا من التحريم بمعنى أعظم المدينة جمعًا بين الدليلين بقدر الإمكان، وبه نقول فنعظمها ونوقرها أشد التوقير والتعظيم، لكن لا نقول بالتحريم لعدم القاطع احترازًا عن الجرأة على تحريم ما أحل الله تعالى. فإن قيل: إنه شبه التحريم بمكة فكيف يصح الحمل على التعظيم؟ أجيب: بأنه لا يخلو عن أمرين، إما أن يكون المراد التشبيه من كل الوجوه أو من وجه دون وجه، فإن كان الأول فلا يصح الحمل على ما حملتم عليه قوله ((كتحريم إبراهيم مكة)) فقلتم في الحرمة فقط لا في وجوب الجزاء في المشهور من المذهب، وإن قلتم بوجوب الجزاء فلا نسلم لأنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة رضي الله عنهم إلا عن سعد فقط. وعن عمر في قول، وهو سلب القاطع والصائد وقد أجمعنا أن ذلك لا يجب في حرم مكة فكيف يجب هناك؟ وإن كان الثاني فكما حملتم على شيء ساغ لنا أن نحمل على آخر، وهذا لأن تشبيه الشيء بالشيء يصح من وجه واحد وإن كان لا يشبهه من كل الوجوه كما في قوله تعالى {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم}(سورة آل عمران: الآية ٥٢) . يعني من وجه واحد وهو تخليقه بغير أب فكذلك نقول إن تشبيهه بمكة في تحريم التعظيم فقط لا في التحريم الذي يتعلق به أحكام أخر، لأن ذلك يوجب التعارض بين الأحاديث، وبالحمل على ما قلنا يدفع ودفعه هو المطلوب مهما أمكن بالإجماع، فصار المصير إلى ما ذهبنا إليه أولى وأرجح بلا نزاع – انتهى. قال صاحب فتح الملهم بعد ذكر هذا كله: قلت: ولكن يرد هذا كله حديث جابر عند مسلم بلفظ: ((إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم المدينة ما بين لابتيها لا يقطع عضاهها ولا يصاد صيدها)) . وأصرح منه حديث سعد بلفظ:((إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها)) . وفي حديث ابن عباس عند أحمد (ج ١: ص ٣١٨) بإسناد حسن: ((لكل نبي حرم وحرمي المدينة، اللهم إني أحرمها بحرمك أن لا يؤوى بها محدث ولا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها ولا تؤخذ لقطتها إلا لمنشدها)) . فقد ثبت النهي عن الاصطياد بطريق يعتمد عليه، وظهر أن التحريم فيه ليس بمعنى التوقير والتعظيم فقط بل هو واقع على قطع العضاه وقتل الصيد كالحرم المكي والله أعلم – انتهى. قلت: والأصل في المنع والنهي التحريم حتى تقوم دلالة على التنزيه ولم يقم دليل على كون النهي لكراهة التنزيه، بل ورد ما يدل على كونه للتحريم فقد روى مسلم من طريق يزيد بن هارون عن عاصم الأحول قال: سألت أنسًا أحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة؟ قال: نعم هي حرام، لا يختلى خلاها، فمن فعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ففي هذه الرواية ترتب الوعيد الشديد على المختلي، قال صاحب فتح الملهم: هذا مخالف لما ذهب إليه الحنفية من حمل النهي عن الاختلاء ونحوه على الكراهة مع إثبات الإباحة. قال: ولم أجد في غير هذا الطريق ويختلج في قلبي أن الرواية وقع فيها اختصار، وحذف بعض الرواة ذكر الإحداث وإيواء المحدث وكان