ولم يكن أحد من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه. (وجعلت تربتها) أي: ترابها كما في حديث علي عند أحمد والبيهقي. والتراب أعم من أن يكون سبخاً أو غيره لأن المدينة سبخة، وقد كانوا يتيممون منها. (لنا طهوراً) أي: مطهراً. فيه دليل على أن التراب يرفع الحدث كالماء لاشتراكهما في الطهورية. (إذا لم نجد الماء) هذا القيد قرآني معتبر في الأحاديث المطلقة. واستدل بالحديث على أن التراب متعين للتيمم دون بقية الجامدات من أجزاء الأرض كالحجر، والكحل، والزرنيخ، والجص، والنورة، والإثمد، والمرجان، والآجر، والملح معدنياً كان أو مائياً، وكالحديد والنحاس والصفر والذهب والفضة، ونحوها مما يذاب بالنار متميزاً عن التراب. قال الحافظ: دل الافتراق في اللفظ حيث حصل التأكيد في جعلها مسجداً دون الآخر على الافتراق في الحكم، أي: بتعين التراب للتيمم دون السجود، وإلا لعطف أحدهما على الآخر نسقاً كما وقع في حديث جابر عند الشيخين بلفظ: وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً – انتهى. وقال الشوكاني في السيل الجرار: ومما يعين التراب ويقيد أنه المراد أن جماعة من أهل اللغة كصاحب القاموس وغيره فسروا الصعيد بالتراب، وما صعد على وجه الأرض، فجعلوا التراب أحد معنى الصعيد، فالروايات المصرحة بالتراب هي معينة لأحد معنى الصعيد انتهى. وقال العلامة القنوجي في تفسير سورة النساء من فتح البيان (ج٢:ص٢٢٨) بعد ذكر حديث حذيفة هذا ما لفظه: فهذا مبين لمعنى الصعيد المذكور في الآية، أو مخصص لعمومه، أو مقيد لإطلاقه. ويؤيد هذا ما حكاه ابن فارس عن كتاب الخليل: تيمم بالصعيد أي: خذ من غباره - انتهى. والحجر الصلد لا غبار عليه. قلت: ويقوى كون المراد التراب قوله تعالى في المائدة: {فامسحوا بوجوهكم وأيدكم منه}[٦:٥] وذلك أن كلمة "من" للتبعيض كما قال في الكشاف حيث قال: إنه لا يفهم أحد من العرب قول القائل: مسحت برأسه من الدهن ومن التراب، إلا معنى التبعيض والتبعيض لا يتحقق إلا في المسح بالتراب لا من الحجارة ونحوها. وأيضاً التنصيص على التراب في الأحاديث يدل على أن ذلك البعض هو التراب. قال الشوكاني في السيل الجرار: ولا يعارض هذا تيممه - صلى الله عليه وسلم - من الحائط، فإنه لم يرو أنه كان معموراً من الحجر، بل الظاهر أنه معمور بالطين، وإذا كان كذلك فالضرب فيه لا يبعد أن يعلق باليد من تربته ما له أثر يمسح به. وقد أخرج الشافعي أنه حته أي: الحائط الذي تيمم منه، وقد أخرج هذه الزيادة البيهقي من طريق الشافعي، ثم قال: وفي إسنادها يعني هذه الزيادة إبراهيم بن أبي يحيى شيخ الشافعي، عن أبي الحويرث- وهو متكلم فيهما - عن الأعرج، عن أبي الصمة، وهو يعني الأعرج لم يسمع منه – انتهى. قلت: ويلتحق بالتراب الرمل، فيجوز التيمم به أيضاً كالتراب. قال ابن القيم في زاد المعاد (ج١:ص٥١) : صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: حيثما أدركت رجلاً من أمتي الصلاة، فعنده مسجده وطهوره. وهذا نص صريح في أن من أدركته الصلاة في الرمل له طهور. ولما سافر هو وأصحابه في غزوة تبوك قطعوا تلك الرمال في طريقهم، وماءهم في غاية القلة، ولم يرو عنه أنه حمل معه التراب ولا أمر به، ولا فعله أحد من أصحابه مع القطع بأن في المفاوز الرمال أكثر من التراب، وكذلك أرض الحجاز وغيره.