قلت: الحديث يدل على أن التغليس أفضل من الإسفار، وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحق. قال ابن عبد البر: صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعن أبي بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا يغلسون، ومحال أن يتركوا الأفضل، وياتوا الدون، وهم النهاية في إتيان الفضائل. واستدل هؤلاء الأئمة على أفضلية التغليس بحديث عائشة هذا، وبحديث إبن عمر عند ابن ماجه، وبحديث أنس الآتي، وبحديث قيلة بنت مخرمة عند الطبراني وابن مندة، ذكره الحافظ في الإصابة (ج٤:ص٣٩٤، ٣٩١) في قصة طويلة قال ابن عبد البر: هو حديث طويل فصيح حسن، وبحديثي أبي برزة وجابر بن عبد الله المتقدمين، وبحديث أبي مسعود قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح مرة بغلس، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات، لم يعد إلى أن يسفر. رواه الحازمي، وأبوداود، وغيرهما، وصححه ابن خزيمة وغيره. قال الحازمي: تغليس النبي - صلى الله عليه وسلم - ثابت، وأنه دوام عليه إلى أن فارق الدنيا، ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يداوم إلا على ما هو الأفضل، وكذلك أصحابه من بعده تأسياً به - صلى الله عليه وسلم -، ثم روى بسنده حديث أبي مسعود هذا وقال بعد روايته: هذا طرف من حديث طويل في شرح الأوقات، وهو حديث ثابت مخرج في الصحيحين بدون هذه الزيادة، وهذا إسناد رواته عن آخره ثقات، والزيادة عن الثقة مقبولة. وقال المنذري في تلخيص السنن نحو هذا. وقال الخطابي: هو صحيح الإسناد. وقال ابن سيد الناس: إسناده حسن. وقال الشوكاني: رجاله في سنن أبي داود رجال الصحيح، وقد أعل بعضهم حديث أبي مسعود هذا بما قد رده شيخنا في أبكار المنن (ص٧١-٧٣) وفي شرح الترمذي (ج١:ص١٤٣) فارجع إليهما. وقد خالف الحنفية أحاديث التغليس، وقالوا باستحباب الإسفار، واستدلوا لذلك بحديث رافع بن خديج الآتي: أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر، وسيأتي كلام فيه فانتظر. وأجابوا عن أحاديث التغليس بأجوبة كلها مخدوشة مردودة. فمنها أن هذه الأحاديث محمولة على الخصوصية، وفيه أن هذا مجرد دعوى لا دليل عليه بل يبطله عمل الخلفاء الراشدين من بعده. ومنها أنها منسوخة فكان التغليس في ابتداء حين كن يحضرن الجماعات، ثم لما أمرن بالقرار في البيوت انتسخ ذلك، وفيه ما في الأول مع أنه لم يثبت منعهن من المساجد بل ثبت النهي عن منعهن من المساجد كما لا يخفى. ومنها أنها محمولة على عذر الخروج إلى سفر، وفيه أنه - صلى الله عليه وسلم - قد داوم على التغليس في الحضر والسفر، ولازمه حتى فارق الدنيا، فلو كان مستحباً لما اجتمع الصحابة على الإسفار. وقد روى الطحاوي عن إبراهيم النخعي قال: ما اجتمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على شيء ما اجتمعوا على التنوير، وفيه أن دعوى إجماع الصحابة على الإسفار باطلة جداً يبطلها عمل الخلفاء الراشدين، ومن سواهم من الصحابة والتابعين بالتغليس. ومنها أنها محمولة على أطول القراءة كسورة البقرة، فيحمل على الخصوصية أيضاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -:صل بالقوم صلاة أضعفهم، وفيه أنه قد تقدم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في الصبح ما بين الستين إلى المائة، وهذا لا يخالف قوله: صل بالقوم صلاة أضعفهم، فلا حاجة إلى حمل تغليسه على الخصوصية (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك، وأحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم.