المتعسف المتعصب. وقال بعض الحنفية: سياق الحديثين ظاهر في أن أحدهما ورد في غير ما ورد فيه الآخر، ولا يمكن أن يكون أحدهما تفسيراً للآخر، وذلك من وجوه، الأول أن الحديث الأول وهو قوله- عليه السلام -: "اسكنوا في الصلاة" ورد في رفعهم في الصلاة. روى النسائي، عن جابر بن سمرة: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن رافعوا أيدينا في الصلاة، بخلاف الحديث الثاني: إذا سلم أحدكم فلا يلتفت إلى صاحبه، ولا يومئ بيده؛ لأن رفعهم كان عند السلام، وهي حالة الخروج من الصلاة-انتهى. قلت: حاصل كلامه أن الذي يرفع يديه حال التسليم لا يقال له: "اسكن في الصلاة"؛ لأنه ليس في أثناء الصلاة، بل هو في حالة الخروج من الصلاة، فلا يصح إطلاق لفظ "في الصلاة" عليه، وإنما يقال: ذلك لمن يرفع يديه في أثناء الصلاة وهو حالة الركوع والسجود ونحو ذلك. وفيه أن الذي يرفع يديه قبل الفراغ والانصراف من الصلاة وإن كان حال التسليم الثاني يقال له أيضاً: اسكن في الصلاة، فإن الفراغ والانصراف منها إنما يكون بالفراغ من التسليم الثاني، فما لم يفرغ من التسليم الثاني هو في الصلاة. كيف لا! وقد أطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذه الحالة لفظ "في الصلاة" وأمرهم بالسكون، ففي رواية لأحمد (ج٥: ص١٠٢) من حديث جابر الطويل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما بال الذين يرمون بأيديهم في الصلاة كأنها أذناب الخيل الشمس. وفي أخرى له أيضاً (ج٥: ص٨٦) : ما بال أقوام يرمون بأيديهم كأنها أذناب الخيل الشمس، ألا يسكن أحدكم، الخ. ويؤيد ذلك أيضاً ما عند الترمذي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة. وما عند البزار: قال سمرة: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نسلم على أئمتنا، وأن يسلم بعضنا على بعض في الصلاة. فالذين كانوا يومئون بأيديهم، ويرفعونها عند السلام يصدق عليهم أنهم رفعوا أيديهم في الصلاة. والحاصل أن الرفع عند السلام هو الرفع في أثناء الصلاة، فصح أن يقال له "اسكن في الصلاة". قال: والثاني أن في الحديث الأول كان خروجه - صلى الله عليه وسلم - من البيت، ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهم في تلك الصلاة. روى أحمد في مسنده (ج٥: ص٩٣) من حديث جابر: أنه- عليه السلام -دخل المسجد فأبصر قوماً قد رفعوا أيديهم-الحديث. بخلاف الحديث الثاني، فإن رفعهم فيه كان خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله:"كنا إذا صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلنا السلام عليكم". وفيه أن هذا الاختلاف من تصرف الرواة، ذكر بعضهم ما لم يذكره الآخر، وكان الأصل أنه - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد فصلى بنا، وكنا إذا سلمنا قلنا بأيدينا: السلام عليكم، فنظر إلينا، فقال: ما شأنكم، الخ. وكثيراً ما يقع مثل هذا التصرف بل أكثر منه من الرواة كما لا يخفى على من له أدنى خبرة على مختلف الروايات، فدعوى التعدد والتغاير بمثل هذا الاختلاف ليس مما يلتفت إليه. والحديث الأول ليس بنص في أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن معهم في تلك الصلاة. قال: والثالث أن الحديث الأول يدل على أن الرفع كان فعل قوم مخصوصين، وهم الذين كانوا إذ ذاك يتنفلون في المسجد سواء فعل جميع المصلين أو بعضهم، سوى الذين لم يكونوا