كلّهم أجلُّ من ذلك وعدالتُهم مانعةٌ منه، وفرار عبد الله بن عمر من ذلك إنّما هو محمول على تورّعه من الدّخول في شيء من الأمور مباحًا كان أو محظورًا كما هو معروف عنه، ولم يبقَ في المخالفة لهذا العهد الّذي اتّفق عليه الجمهور إلّا ابن الزّبير؛ وندور المخالف معروف.
ثمّ إنّه وقعَ مثلُ ذلك من بعد معاوية من الخلفاء الّذين كانوا يتحرّون الحقَّ ويعملون به؛ مثل عبد الملك وسليمان من بني أميّة، والسّفّاح والمنصور والمهديّ والرّشيد من بني العبّاس، وأمثالهم ممّن عرفت عدالتهم وحسنُ رأيهم للمسلمين والنّظر لهم، ولا يُعاب عليهم إيثارُ أبنائهم وإخوانهم وخروجهم عن سنن الخلفاء الأربعة في ذلك، فشأنهم غير شأن أولئك الخلفاء؛ فإنّهم كانوا على حين لم تحدث طبيعة الملك وكان الوازع دينيّا، فعند كلّ أحد وازع من نفسه، فعهدوا إلى من يرتضيه الدّين فقط، وآثروه على غيره، ووكلوا كلَّ من يسمو إلى ذلك إلى وازعه.
وأمّا مَنْ بعدَهُم من لَدُنْ معاوية، فكانت العصبيّة قد أشرفَتْ على غايتها من الملك الوازع الدّينيّ قد ضعف، واحتيجَ إلى الوازع السّلطانيّ والعصبانيّ، فلو عهد إلى غير من ترتضيه العصبيّة لردَّتْ ذلك العهد وانتفض أمره سريعًا، وصارت الجماعة إلى الفرقة والاختلاف» (١).
وهكذا يقال فيمن بعده، فلو ولَّاه بغير طريقة الإرث لصارت المفسدة أكبر، والشريعة تنهى عما كانت مفسدته أكبر.