للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إسرائيل لما اقتضته طبيعة الملك من الانفراد به، وكانوا ما علمتَ من النّبوة والحقّ، وكذلك عَهِدَ معاوية إلى يزيد خوفًا من افتراق الكلمة بما كانت بنو أميّة لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم. فلو قد عَهِدَ إلى غيره اختلفوا عليه مع أنّ ظنَّهم كان به صالحًا ولا يرتاب أحدٌ في ذلك ولا يُظَنُّ بمعاوية غيره، فلم يكن ليعهدَ إليه وهو يعتقد ما كان عليه من الفسقِ حاشا الله لمعاوية من ذلك» (١).

وقال ابن خلدون أيضًا: «ولا يتّهم الإمام في هذا الأمر، وإن عَهِدَ إلى أبيه أو ابنه؛ لأنّه مأمونٌ على النّظر لهم في حياته؛ فأَولى أن لا يحتمل فيها تبعةً بعد مماته؛ خلافًا لمن قال باتهامه في الولد والوالد، أو لمن خصَّص التّهمة بالولد دون الوالد، فإنّه بعيد عن الظنّة في ذلك كلِّه لا سيّما إذا كانت هناك داعية تدعو إليه من إيثار مصلحة، أو توقُّع مفسدة، فتنتفي الظنّة في ذلك رأسًا كما وقع في عهد معاوية لابنه يزيد، وإن كان فعلُ معاوية مع وِفاقِ النّاس له حجّةً في الباب، والّذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنّما هو مراعاةُ المصلحة في اجتماع النّاس واتّفاق أهوائهم باتّفاق أهل الحلِّ والعقد عليه حينئذٍ من بني أميّة؛ إذ بنو أميّة يومئذٍ لا يرضَونَ سواهم، وهم عصابة قريش وأهلُ الملّة أجمع، وأهلُ الغلب منهم؛ فآثَرهُ بذلك دون غيره ممّن يَظُنّ أنّه أولى بها، وعَدلَ عن الفاضل إلى المفضول حرصًا على الاتّفاق واجتماع الأهواء الّذي شأنه أهمُّ عند الشّارع.

وإن كان لا يُظَنُّ بمعاوية غير هذا فعدالتهُ وصُحبته مانعةٌ من سوى ذلك، وحضورُ أكابر الصّحابة لذلك وسكوتهم عنه دليلٌ على انتفاء الرَّيب فيه، فليسوا ممّن يأخذهُم في الحقّ هوادةٌ، وليس معاوية ممّن تأخذهُ العزّة في قبول الحقّ؛ فإنّهم


(١) تاريخ ابن خلدون (١/ ٢٥٧).

<<  <   >  >>