وبهذا يتبين أنَّ أبا حنيفة كان يرى هذا الرأي لكن لا ممسكَ في كلامه من وجهين:
الوجه الأول: أنَّ أبا حنيفة رجع عن هذا القول كما في كتاب الفقه الأكبر.
فقد جاء فيه:«قلت لأبي حنيفة: فما تقول فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فيتبعهُ على ذلك ناس، فيخرج على الجماعة هل ترى ذلك؟ قال: لا، قلت: ولم وقد أمرَ الله تعالى ورسولهُ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا فريضة واجبة؟، فقال: هو كذلك، لكن ما يفسدونَ من ذلك أكثر مما يصلحون من سفك الدماء، واستحلالِ المحارم، وانتهاب الأموال، وقد قال الله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}[الحجرات: ٩]، قلت: فنقاتلُ الفئة الباغية بالسيف؟ قال: نعم؛ تأمر وتنهى، فإن قَبل وإلَّا قاتلتَهُ، فتكون مع الفئة العادلة، وإنْ كان الإمام جائرًا لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «لا يضرُّكم جَورُ من جار، ولا عَدلُ منَ عدلَ، لكُم أجرُكُم وعليه وِزرُه»(١).
ومما يدلُّ على تراجُعهِ أنَّ الطَّحاوي في عقيدته المشهورة نَسبَ لأبي حنيفة وصاحبَيه عدمَ جوازِ الخروج على الحاكم الفاسق.
الوجه الثاني: أنه لو استقر عليه لكان خطأً أنكَرهُ عليه سلفُ هذه الأمة، فلا يصحُّ الاستدلال بخطأ العالم وزلَّته. وهذا مثلُ خطئه في مسألة الإيمان لمَّا أخرجَ العمل منه.