للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فأجاب: ليس له منعُ الناس من مثل ذلك، ولا من نظائره مما يسوغُ فيه الاجتهاد، وليس معه بالمنع نصٌّ من كتاب ولا سنة ولا إجماع، ولا ما هو في معنى ذلك، لاسيما وأكثرُ العلماء على جواز مثل ذلك وهو مما يعمل به عامة المسلمين في عامة الأمصار، وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقضَ حُكمَ غيره في مثل هذه المسائل ولا للعالم والمفتي أن يُلزم الناس باتِّباعه في مثل هذه المسائل.

ولهذا لما استشار الرشيد مالكًا أن يحملَ الناس على موطَّئه في مثل هذه المسائل منعَهُ من ذلك، وقال: إنَّ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تفرَّقوا في الأمصار وقد أخذ كلُّ قومٍ من العلم ما بلَغهُم. وصنف رجلٌ كتابًا في الاختلاف، فقال أحمد: لا تسمِّه كتاب الاختلاف، ولكن سمِّه كتاب السَّعة، ولهذا كان بعضُ العلماء يقول: إجماعهُم حجَّة قاطعة، واختلافهُم رحمة واسعة، وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ما يسرُّني أنَّ أصحابَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يختلفوا لأنهم إذا اجتمعوا على قولٍ فخالفهُم رجلٌ كان ضالًّا، وإذا اختلفوا فأخذ رجلٌ بقول هذا ورجلٌ بقول هذا كان في الأمر سعةٌ، وكذلك قال غيرُ مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحملَ الناسَ على مذهبه.

ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره: إنَّ مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تُنَكر باليد وليس لأحدٍ أن يُلزمَ الناس باتِّباعه فيها، ولكن يتكلَّم فيها بالحجج العلمية، فمن تبيَّن له صحَّة أحد القولين تَبِعَهُ، ومن قلَّد أهلَ القول الآخر فلا إنكارَ عليه، ونظائرُ هذه المسائل كثيرة» (١).


(١) مجموع الفتاوى (٣٠/ ٧٩).

<<  <   >  >>