للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وسيّر رسولا من الموصل من بيت أتابك [١] إلى صلاح الدين، وعاد إليهم ولم يقض ما سيّر فيه، فتغيروا عليه، فانتقل عنها إلى صلاح الدين، فولاه ديوان ميّافارقين، فلم يسغ له المقام بها مع سنقر الخلاطىّ أحد المماليك، وقد كان ولى أمرها، فرحل إلى دمشق وأقام، وأجرى له بها رزق لم يكن كافيا، فكان يمشّى حاله- فيما قيل- تمشية ظاهرها التجمل، وتشعر بالتكلّف.

ووجد بدمشق زيد بن الحسن بن زيد الكندىّ النحوىّ، فكان يذاكره ويحاضره، وامتدحه بقوله:

يا زيد زادك ربّى من مواهبه ... نعماء يعجز عن إدراكها الأمل

لا غيّر الله حالا قد حباك به ... ما دار بين النحاة «الحال» و «البدل»

النحو أنت أحقّ العالمين به ... أليس باسمك فيه يضرب المثل!

وارتحل إلى مصر فى شهور سنة ست وثمانين، ونزل على قاضيها عبد الملك بن درباس المارانى [٢] الكردىّ، وأنزله فى دار فى قبلة الجامع الأزهرىّ، بينها وبين الجامع عرصة درب غير نافذ؛ ودخل الناس إليه للأخذ، وكنت فيمن دخل عليه، فرأيته شيخا دميم الخلقة، مسنون الوجه، مسترسل اللحية خفيفها، أبيض تعلوه صفرة. وحضر من قرأ عليه منبرا فى الفرائض من جدولته، وكان القارىء له علىّ ابن جلال الدولة بن الدورىّ؛ شاب نشأ يطلب العلم ولم يعمّر، وأخرج إلينا كتابا فى ستة عشر مجلدا لطافا، فيه غريب الحديث له، وقد عمل فيه رموز الحروف


[١] أتابك، أصله «أطابك»، مركب من لفظين تركيين، أطا بمعنى أب، وبك بمعنى أمير، وكانت الكلمة فى عهد السلاجقة تطلق على كبير الأمراء، وفى أيام المماليك كانت تطلق على مقدّم العساكر.
وانظر صبح الأعشى (٤: ١٨)، وهامش السلوك (١: ١٤٦).
[٢] منسوب إلى ماران، قبيلة من الأكراد، قدم الديار المصرية مع السلطان صلاح الدين، وولاه القضاء بها سنة ٥٦٦، وتوفى سنة ٦٠٥. رفع الأصر لابن حجر، الورقة ١٧١ - ١٧٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>