للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>


= الحق أن أبا حامد الغزالي -رحمه الله تعالى- كان من نوابغ علماء الملة وأنصار الدين الداعين إليه والمدافعين عنه؛ ولذلك لقب بحجة الإسلام، وقيل هذا اللقب الخاص والعام إلا الخصوم الذين لم يسلم نابغ منهم. ولإخلاص أبي حامد لله -تعالى- في علمه، وعمله جعل خاتمته خيرا من بدايته، فقد كانت عنايته أولا بالفقه، وأصوله، ثم بالمعقولات، وهي علم الكلام، وما يتعلق به من المنطق والفلسفة، ثم بالتصوف علما وعملا ورياضة، وأما خاتمته فكانت بالرجوع إلى كتب السنة، والعكوف على صحيحي البخاري ومسلم، والأخذ بمذهب السلف الصالح فيها.
وأما كتابه الإحياء فقد ألفه في أثناء تصوفه، وكان يعتمد فيما ينقله فيه من الأحاديث، والآثار على كتب الحديث، وكتب التصوف من غير بحث في الروايات، وتمييز الصحيح وغير الصحيح منها، فوقع فيه كثير من الروايات الضعيفة والموضوعة، وكثير من نظريات الفلسفة التي رآها موافقة للدين، وما كل ما في الفلسفة -ولا سيما الأدبية منها - مخالف للدين، ولا أكثرها أيضا. فكان خصومه يشنعون عليه بهذا وذاك.
فأما المحدثون فقد شنع عليه بعضهم بذكر ما لا يحتج به من الأحاديث والآثار، وأجيب عنه بأنه لم يكن منفردا بذلك، فأكثر المؤلفين في الفقه والتصوف والأدب والتاريخ قد وقعوا في مثل ذلك؛ لأنهم لم يكونوا من نقاد الحديث، ولا من حفاظه، بل وقع في بعض كتب المحدثين روايات واهية وموضوعة، لم ينبهوا عليها، بل منهم من صحح بعضها كالحاكم على جلالة قدره. ولم يشنع أحد من هؤلاء الخصوم على هؤلاء، ولا أولئك كما شنعوا عليه مع العلم بأنه هو لم يضع حديثا، ولم يدّع تصحيح ما لا يصح.
وأما التشنيع عليه ببعض المسائل الكلامية والفلسفية والصوفية فالعبرة فيها بإقامة الدليل على بطلان كلامه فيها، وقد رأينا أن العلامة صاحب هذه الرسائل قد عني بنقل كل ما اطلع عليه من الطعن في الغزالي، ولم نر فيها إلا عبارات قليلة منكرة كمبالغته في مدح علم المنطق، وقوله: ليس في الإمكان أبدع مما كان. وقد ذكرها عنها بتعبير شنيع، لا أدري أقاله أم هو نقل لعبارته هذه بالمعنى، وقد أجاب عنها كثير من العلماء أجوبة تنطبق على قواعد الشرع، وردّها بعضهم بكل حال، وهؤلاء لم ينكروا على غيره من المخالفين لظواهر النصوص في التصوف بالشدة التي أنكروا بها على أبي حامد، بل أولوا لغيره ما لا يقبل التأويل، وما هو كفر صريح، بل نرى كل طائفة ترفق بمن كان منها فيما يخالف اعتقادها، وتتأول له كما فعل الحافظ الذهبي، والمحقق ابن القيم في الإنكار على شيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي المحدث السلفي الصوفي، فالأول تمنى لو لم يؤلف كتاب "منازل السائرين" في التصوف، والثاني تأول له بعض العبارات المخالفة لظواهر الكتاب والسنة وهدي السلف؛ حتى ما أنكره عليه شيخه شيخ الإسلام من أبياته الشهيرة في حقيقة =

<<  <  ج: ص:  >  >>