للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تدركه الأبصار. والرب -جل جلاله- يتعالى أن يمدح بأمر يشاركه فيه العدم المحض، فالمعنى أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به، كما كان المعنى في قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} ١ أنه يعلم كل شيء، وفي قوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} ٢ أنه كامل القدرة. وفي قوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} ٣ أنه كامل العدل، وفي قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} ٤ أنه كامل القيومية.

وقوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} ٥ يدل على غاية عظمته، وأنه أكبر من كل شيء، وأنه لعظمته لا يدرك بحيث لا يحاط به، فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء، وهو قدر زائد على الرؤية كما قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلا} ٦ فلم ينف موسى الرؤية، ولم يريدوا بقولهم إنا لمدركون: لمرئيون. فإن موسى -عليه السلام- نفى إدراكهم إياهم بقوله: "كلا".

فأخبر الله -سبحانه- أنه لا يخاف دركهم بقوله: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} ٧ فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر وبدونه، فالرب -تعالى- يرى ولا يدرك، كما يعلم، ولا يحاط به، وهذا الذي فهمه الصحابة والأئمة. قال ابن عباس: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} ٨ لا تحيط به الأبصار.

فالمؤمنون يرون ربهم -تبارك وتعالى- بأبصارهم عيانا، ولا تدركه أبصارهم بمعنى أنها لا تحيط به، وهكذا يسمع كلامه من يشاء من خلقه، ولا يحيطون بكلامه، وكذلك يعلم الخلق ما علمهم، ولا يحيطون بعلمه.

ونظير هذا استدلالهم على نفي الصفات بقوله -تعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ٩.

وهذا من أعظم الأدلة على كثرة صفات كماله ونعوت جلاله، وأنها لكثرتها وعظمتها وسعتها لم يكن له مثل فيها، وهكذا جميع العقلاء إنما يفهمون من قول القائل: فلان لا مثل له، وليس له نظير ولا شبيه، أنه قد تميز عن الناس بأوصاف


١ سورة يونس آية: ٦١.
٢ سورة ق آية: ٣٨.
٣ سورة الكهف آية: ٤٩.
٤ سورة البقرة آية: ٢٥٥.
٥ سورة الأنعام آية: ١٠٣.
٦ سورة الشعراء آية:٦١، ٦٢.
٧ سورة طه آية: ٧٧.
٨ سورة الأنعام آية: ١٠٣.
٩ سورة الشورى آية: ١١.

<<  <  ج: ص:  >  >>