السائح بما قالوه وصنعوا له من الشعير عدة أرغفة ووضعوها له في حبل فكان يفطر الحافظ أبي بكر، وقعد للتدريس، ونفع الله به كل من قرأ عليه وانتشر علمه.
وكانت بالإسكندرية امرأة متعبدة هي خالة أبي الطاهر بن عوف فخطبته وتزوجها وبنى بها في المدينة، وكان لها ابن من أهل الدنيا كثير التخليط فصعب ذلك عليه وعمد إلى خنجر واستتر في المدرسة.
فلما أقبل الليل قصد البيت الذي كان فيه أمه مع الفقيه فلم يجد فيه أحداً ووجد كل واحد منهما قد قام إلى ورده، وسمع صوت الفقيه يقرأ في الصلاة، فأقام الصوت وخنجره في يده، فلما قرب منه وهو عازم على قتله حالت بينه وبينه سارية من سواري مساكن المدرسة، وضرب فيها بوجهه وخر مغشياً عليه، والفقيه لا يشعر.
فلما طلع الفجر نزل إلى المدرسة فصلى الصبح ودرس وتصرفت زوجه في أثناء ذلك فوجدت ابنها متجندلاً لا يعقل فكلمته فلم يكلمها.
فلما فرغ الفقيه من التدريس صعد إلى منزله فأعلمته زوجه بمكان ابنها، فصعد نحوه فوجده على تلك الحال فجرد يده على وجهه، وتفل وتكلم بكلمات ففتحت عينيه، فلما أبصر الفقيه قال له: هات يدك فأنا تائب إلى الله تعالى، لا عصيته بعد اليوم أبداً، ولا تركتك في هذا الموضع، انتقل إلى دار أهلك فاسكنها بالفعل وحسنت توبة الابن بعد ذلك.
أخبرني شيخي أبي بكر المفضل عبد المجيد، بن دليل قال: كنت أبيت أكثر الليالي بمدرسة الحافظ أبي بكر فسمعته ذات ليلة قد قام إلى ورده على عادته وافتتح [من سورة الصافيات حتى] بلغ إلى قوله تعالى {وقفوهم إنهم مسؤولون} ولم يزل يردد هذه الآية ويبكي إلى أن طلع الفجر.