(ص١٣٦) : والمقصود أن الصحابة كانوا في زمن الخلفاء الراشدين يدخلون المسجد ويصلون فيه الصلوات الخمس، ويصلون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسلمون عليه عند دخول المسجد وبعد دخوله، ولم يكونوا يذهبون ويقفون إلى جانب الحجرة ويسلمون عليه هناك، وكان على عهد الخلفاء الراشدين والصحابة حجرته خارجة عن المسجد، ولم يكن بينهم وبينه إلا الجدار. ثم إنه إنما أدخلت الحجرة في المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك بعد موت عامة الصحابة الذي كانوا بالمدينة، والوليد تولى سنة ست وثمانين، وتوفي سنة ست وتسعين. فكان بناء المسجد وإدخال الحجرة فيه فيما بين ذلك، وكان الذي تولى ذلك عمر بن عبد العزيز نائب الوليد على المدينة فسد باب الحجرة، وبنوا حائطاً آخر عليها غير الحائط القديم، فصار المسلم عليه من وراء الجدار أبعد من المسلم عليه لما كان جداًرا واحداً. قال هؤلاء: لو كان سلام التحية الذي يرده على صاحبه مشروعاً في المسجد لكان له حد، ذراع أو ذراعان، أو ثلاثة، فلا يعرف الفرق بين المكان الذي استحب فيه هذا. ولمكان الذي لا يستحب فيه. فإن قيل: من سلم عليه عند الحائط الغربي رد عليه. قيل: وكذلك من كان خارج المسجد، وإلا فما الفرق؟ وحينئذٍ يلزم أن يرد على جميع أهل الأرض، وعلى كل مصل في صلاة كما ظنه بعض الغالطين، ومعلوم بطلان ذلك. وإن قيل: يختص بقدر بين المسلم وبين الحجرة. قيل: فما حد ذلك؟ ولهم قولان: منهم من يستحب القرب من الحجرة كما استحب ذلك مالك وغيره، ولكن يقال: فما حد ذلك القرب؟ وإذا جعل له حد فهل يكون من خرج عن الحد فعل المستحب؟ وآخرون من المتأخرين يستحبون التباعد عن الحجرة كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفة والشافعي فهل هو بذراع أو باع أو أكثر؟ وقدره من قدره من أصحاب أبي حنيفة بأربعة أذرع فإنهم قالوا: يكون حين يسلم عليه مستقبل القبلة، ويجعل الحجرة عن يساره، ولا يدنوا أكثر من ذلك، وهذا والله أعلم، قاله المتقدمون؛ لأن المقصود به السلام المأمور به في القرآن، كالصلاة عليه ليس المقصود به سلام التحية الذي يرد جوابه المسلم عليه، فإن هذا لا يشرع فيه هذا البعد، ولا يستقبل به القبلة، ولا يسمع إذا كان بالصوت المعتاد. وبالجملة فمن قال: إنه يسلم سلام التحية الذي يقصد به الرد فلا بد من تحديد مكان ذلك، فإن قال إلى أن يسمع ويرد السلام، فإن حد في ذلك ذراعاً، أو ذراعين أو عشرة أذرع، أو قال: إن ذلك في المسجد كله أو خارج المسجد فلا بد له من دليل، والأحاديث الثابتة عنه فيها أن الملائكة يبلغونه صلاة من صلى عليه، وسلام من سلم عليه، ليس في شيء منها أنه يسمع بنفسه ذلك، فمن زعم أنه يسمع ويرد من خارج الحجرة من مكان دون مكان فلا بد له من حد. ومعلوم أنه ليس في ذلك حد شرعي، وما أحد يحد في ذلك حداً إلا عورض بمن يزيده أو ينقصه ولا فرق، وأيضاً فذلك يختلف باختلاف ارتفاع الأصوات، وانخفاضها والسنة للمسلم في السلام عليه خفض الصوت، ورفع الصوت في مسجده منهي عنه بالسلام والصلاة وغير ذلك بخلاف المسلّم من الحجرة، فإنه فرق ظاهر بينه وبين المسلّم عليه من المسجد، ثم السنة لمن دخل مسجده أن يخفض صوته، فالمسلّم عليه إن رفع الصوت