أساء الأدب برفع الصوت في المسجد، وإن لم يرفع لم يصل الصوت إلى داخل الحجرة، وهذا بخلاف السلام الذي أمر الله به ورسوله الذي يسلم الله على صاحبه كما يصلي على من صلى عليه، فإن هذا مشروع في كل مكان لا يختص بالقبر. وبالجملة فهذا الموضع فيه نزاع قديم بين العلماء، وعلى كل تقدير فلم يكن عند أحد من العلماء الذين استحبوا سلام التحية في المسجد حديث في استحباب زيارة قبره يحتجون به، فعلم أن هذه الأحاديث. (يعني التي يوردها المبتدعون من القبوريين وغيرهم للاحتجاج لاستحباب السفر لمجرد زيارة قبره من غير قصد الصلاة في مسجد - صلى الله عليه وسلم -، وقد بين ما فيها من الكلام في "الصارم المنكي" مفصلاً) ليست مما يعرفه أهل العلم، ولهذا لما تتبعت وجدت رواتها إما كذاب، أو ضعيف سيء الحفظ، ونحو ذلك. وهذا الحديث الذي فيه "ما من مسلم يسلّم إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام" قد احتج به أحمد وغيره من العلماء، فلو قدر أن هذا مخالف لما هو أصح منه، وجب تقديم ذلك عليه، ولكن السلام على الميت ورده السلام على من سلم عليه قد جاء في غير هذا الحديث، ولو أريد إثبات سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل هذا الحديث لكان هذا مختلفاً فيه للنزاع في إسناده وفي دلالته متنه. وقال في (ص١٤٥) بعد ذكر الأحاديث التي فيها تبليغ صلاة أمته وسلامهم عليه: فهذه الأحاديث المعروفة عند أهل العلم التي جاءت من وجوه حسان فصدق بعضها بعضاً، وهي متفقة على أن من صلى عليه وسلم من أمته فإن ذلك يبلغه ويعرض عليه، وليس في شيء منها أنه يسمع صوت المصلي عليه والمسلّم بنفسه، إنما فيها أن ذلك يعرض عليه ويبلغه - صلى الله عليه وسلم - تسليماً، ومعلوم أنه أراد بذلك الصلاة والسلام الذي أمر الله به سواء صلى عليه وسلم في مسجده، أو مدينته، أو مكان آخر، فعلم أن ما أمر الله به من ذلك فإنه يبلغه، وأما من سلم عليه عند قبره فإنه يرد عليه، وذلك كالسلام على سائر المؤمنين ليس هو من خصائصه، ولا هو السلام المأمور به الذي يسلم الله على صاحبه عشراً، كما يصلي على من صلى عليه عشراً، فإن هذا هو الذي أمر الله به في القرآن، وهو لا يختص بمكان دون مكان، وقد تقدم حديث أبي هريرة أنه يرد السلام على من سلم عليه، والمراد عند قبره، لكن النزاع في معنى كونه عند القبر هل المراد في بيته كما يراد مثل ذلك في سائر ما أخبر به من سماع الموتى إنما هو لمن كان عند قبورهم قريباً منها، أو يراد به من كان في الحجرة كما قاله طائفة من السلف والخلف، وهل يستحب ذلك عند الحجرة لمن قدم من سفر أو لمن أراده من أهل المدينة أو لا يستحب بحال؟ وليس الاعتماد في سماعه ما يبلغه من صلاة أمته وسلامهم إلا على هذه الأحاديث الثابتة، فأما ذاك الحديث. (يعني ما روي عن أبي هريرة بلفظ: من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلى علي نائيا بلغته) وإن كان معناه صحيحاً، فإسناده لا يحتج به، وإنما يثبت معناه بأحاديث أخر، فإنه لا يعرف إلا من حديث محمد بن مروان السدي الصغير عن الأعمش، وهو عندهم موضوع على الأعمش، وهو لو كان صحيحاً فإنما فيه أنه يبلغ صلاة من صلى نائياً، ليس فيه أنه يسمع ذلك، فإن هذا لم يقله أحد من أهل العلم، ولا يعرف في شيء من الحديث، إنما يقوله بعض الجهال،