وإن منا رجالاً يأتون الكهان، قال: فلا تأتهم، قلت: ومنا رجال يتطيرون، قال: ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم.
ــ
روايات أحمد (ج٥:ص٤٤٨) . (وإن منا رجالاً يأتون الكهان) بضم الكاف جمع كاهن، وهو من يتعاطى الأخبار عن الكوائن في المستقبل، ويدعي معرفة الأسرار، ومن الكهنة من يزعم أن له تابعاً من الجن يلقي عليه الأخبار، ومنهم من يدعي إدراك الغيب بفهم أعطيه، ومنهم من يدعي معرفة الأمور بمقدمات وأسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله، وهذا القسم يسمى عرافاً، كمن يدعي معرفة المسروق ومكان السرقة والضالة ونحوهما، والمنجم من ينظر في النجوم أي الكواكب ويحسب سيرها ومواقيتها ليعلم بها أحوال العالم، ومنهم من يسمي المنجم كاهناً. وقوله:(فلا تأتهم) يشمل النهي عن إتيان هؤلاء كلهم والرجوع إليهم وتصديقهم فيما يدعونه. قال العلماء: وإنما نهى عن إتيان الكهان؛ لأنهم يتكلمون في مغيبات قد يصادف بعضها الإصابة، فيخاف الفتنة على الإنسان بسبب بذلك، ولأنهم يلبسون على الناس كثيراً من الشرائع، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن إتيان الكهان وتصديقهم فيما يقولون. (ومنا رجال يتطيرون) التطير أخذ الفأل الشؤم، من الطيرة بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن. قال في القاموس: الطيرة والطيرة الطورة ما يتشاءم به من الفأل الردئ-انتهى. وأصله أنهم كانوا يأتون الطير أو الظبي فينفرونه، فإن أخذ ذات اليمين مضوا إلى ما قصدوا وعدوه حسناً، وإن أخذ ذات الشمال انتهوا عن ذلك وتشاءموا به، وكذا إن عرض في طريقهم، فإن مر عن يمينهم إلى الشمال تشاءموا، وإن مر من الشمال إلى اليمين مضوا، والتفاؤل يجيء للتطير وغيره، وأكثر ما يستعمل في الفأل الحسن، وهو غير ممنوع جداً. قال الجزري في النهاية: الطيرة هي التشاءم بالشيء، وهي مصدر تطير طيرة، كما تقول تخير خيرة، ولم يجئ من المصادر غيرهما، وأصل التطير التفاؤل بالطير، واستعمل لكل ما يتفاءل ويتشأم به، وقد كانوا في الجاهلية يتطيرون بالصيد كالطير والظبي فيتيمنون بالسوانح ويتشأمون بالبوارح، والبوارح على ما في القاموس من الصيد ما مر من ميامنك إلى مياسرك، والسوانح ضدها. وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم، ويمنع السير إلى مطالبهم، فنفاه الشرع وأبطله ونهاهم عنه. (قال: ذاك) أي التطير. (شيء يجدونه في صدورهم) أي ليس له أصل يستند إليه، ولا له برهان يعتمد عليه، ولا هو في كتاب نازل من لديه. وقيل: معناه أنه معفو؛ لأنه يوجد في النفس بلا اختيار، نعم المشي على وقفه منهي عنه، لذلك قال. (فلا يصدنهم) أي لا يمنعهم عما هم فيه، ولا يخفى أن التفريع على هذا المعنى يكون بعيداً، قاله السندي. قلت: المعنى الثاني هو الذي ذكره عامة العلماء. قال النووي: قال العلماء معناه أن الطيرة شيء تجدونه في نفوسكم ضرورة، ولا عتب عليكم في ذلك؛ لأنه غير مكتسب لكم فلا تكليف به، ولكن لا تمتنعوا بسببه من التصرف في أموركم، فهو الذي تقدرون عليه وهو مكتسب لكم فيقع به التكليف. فنهاهم - صلى الله عليه وسلم - عن العمل بالطيرة ولامتناع من تصرفاتهم