فإن تقديمه - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته أبا بكر في الصلاة على غيره مع قوله: أقرؤكم أبيّ يدل على أنه يقدم الأعلم على الأقرأ لكون أبا بكر أعلمهم. قال ابن الهمام: أحسن ما يستدل به لمختار الجمهور حديث: مروا أبا بكر فليصل، وكان ثم من هو أقرأ منه لا أعلم. دليل الأول قوله عليه السلام: أقرؤكم أبيّ، ودليل الثاني قول أبي سعيد: كان أبوبكر أعلمنا، وهذا آخر الأمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيكون المعول عليه. وقال العيني: حديث أبي مسعود كان في أول الأمر، وحديث أبي بكر في آخر الأمر، وقد تفقهوا في القرآن، وكان أبوبكر أعلمهم وأفقههم في كل أمر- انتهى. قلت: قصة إمامة أبي بكر في مرض موته - صلى الله عليه وسلم - واقعة عين غير قابلة للعموم بخلاف حديث أبي مسعود، فإنه تقرير قاعدة كلية تفيد التعميم، فلا يصح الاستدلال بقصة أبي بكر على تقديم الأعلم على الأقرأ يجعلها ناسخة لحديث أبي مسعود، قال صاحب البذل: قصة الإشارة إلى الاستخلاف ربما تكون مخصصة على أنها واقعة حال لا عموم لها، ومن ثم اختار جمع من المشائخ قول أبي يوسف- انتهى. وأجاب صاحب الهداية وغيره عن حديث أبي مسعود بأنه خرج على ما كان عليه حال الصحابة من أن أقرأهم كان أعلمهم"؛ لأنهم كانوا في ذلك الوقت يتلقونه بأحكامه، فقدم في الحديث، ولا كذلك في زماننا، فقدمنا الأعلم. قال الشافعي: المخاطب بذلك الذين كانوا في عصره، كان أقرأهم أفقههم، فإنهم كانوا يسلمون كباراً، ويتفقهون قبل أن يقرأوا، فلا يوجد قارىء منهم إلا وهو فقيه، وقد يوجد الفقيه، وليس بقارىء. ورد هذا الجواب بأنه لو كان المراد بالأقرأ في قوله: يؤم القوم أقرأهم هو الأعلم لكان يلزم تكرار الأعلم في الحديث، ويكون التقدير يؤم القوم أعلمهم، فإن تساووا فأعلمهم. وقال الأمير اليماني: ولا يخفى أنه يبعد هذا الجواب قوله: فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإنه دليل على تقديم الأقرأ مطلقاً. والأقرأ على ما فسروه به هو الأعلم بالسنة، فلو أريد به ذلك لكان القسمان قسماً واحداً. وقال الزبيدي: وأما تأويل المخالف للنص أي لحديث أبي مسعود بأن الأقرأ في ذلك الزمان كان الأفقه، فقد رد هذا التأويل قوله عليه السلام: فأعلمهم بالسنة، ولكن قد يجاب عنه بأن المراد بالأقرأ في الخبر الأفقه في القرآن فقد استووا في فقهه، فإذا زاد أحدهم بفقه السنة فهو أحق، فلا دلالة في الخبر على تقديم الأقرأ مطلقاً، بل على تقديم تقديم الأقرأ الأفقه في القرآن على من دونه، ولا نزاع فيه. قال العيني: المراد من قوله: يؤم القوم أقرأهم أي أعلمهم، يعني أعلمهم بكتاب الله دون السنة، ومن قوله: أعلمهم بالسنة أعلمهم بأحكام الكتاب والسنة جميعاً، فكان الأعلم الثاني غير الأعلم الأول- انتهى. قلت: قد سلف منا أن الراجح في المراد من قوله: أقرأهم هو الأكثر حفظا للقرآن وإن حمله على الأفقه في القرآن والأعلم بأحكامه ومعانيه خلاف الظاهر فلا يلتفت إليه. وأما حمل الحديث على الصحابة خاصة فهو ادعاء محض على أنه يلزم من هذا الجواب أن من نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنه أقرأ من أبي بكر كان أفقه من أبي بكر، فيفسد الاحتجاج بأن تقديم أبي بكر كان لأنه الأفقه.