والقدر الذي قصد إفهامه معلوم، وهو أن الثلث الأخير وقت استجابة وعموم رحمة ووفور مغفرة، فينبغي لطالب الخير أن يدركه ولا يفوته، فعلى الإنسان أن يقتصر على هذا القدر، ولا يتجاوز عنه، إذ لا يتعلق بأزيد منه غرض، قاله السندي. واعلم أنه اختلف في ضبط قوله "ينزل"، فقيل: بضم الياء من الإنزال. قال أبوبكر بن فورك: ضبط لنا بعض أهل النقل هذا الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بضم الياء من ينزل يعني من الإنزال، وذكر أنه ضبط عمن سمع منه من الثقات الضابطين. وكذا قال القرطبي: قد قيده بعض الناس بذلك، فيكون معدياً إلى مفعول محذوف، أي ينزل الله ملكاً، قال: ويقويه ما رواه النسائي من حديث الأغر عن أبي سعيد وأبي هريرة بلفظ: أن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل ثم يأمر منادياً يقول: هل من داع فيستجاب له-الحديث. وصححه عبد الحق. وفي حديث عثمان بن أبي العاص عند أحمد: ينادي مناد هل من داع يستجاب له-الحديث. وعلى هذا فلا إشكال في الحديث. وأما على ما هو المشهور في ضبطه، وهو فتح الياء من النزول، فالحديث مشكل، لأن النزول انتقال الجسم من فوق إلى تحت، والله تعالى منزه عن ذلك. ويؤيد هذا الضبط رواية مسلم بلفظ: يتنزل ربنا بزيادة تاء بعد ياء المضارعة، وعلى هذا فالحديث من المتشابهات. والعلماء فيه على قسمين: الأول المفوضة أجروه على ما ورد مؤمنين به على طريق الإجمال، منزهين الله تعالى عن الكيفية والتشبيه، وهم جمهور السلف، ونقله البيهقي وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين والحمادين والأوزاعي والليث وابن المبارك والزهري ومكحول وغيرهم. والثاني: المؤلة فأولوه بتأويلين: أحدهما أن معنى ينزل ربنا ينزل أمره لبعض ملائكته، أو ينزل ملكه بأمره، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. والثاني: أنه استعارة، ومعناه الإقبال على الداعي بالإجابة واللطف والرحمة وقبول المعذرة، كما هو ديدن الملوك الكرماء والسادة الرحماء إذا نزلوا بقرب قوم محتاجين ملهوفين فقراء مستضعفين. قال البيضاوي: لما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع أعلى إلى ما هو أخفض منه، فالمراد: وفور رحمته أي ينتقل من مقتضي صفات الجلال التي تقتضي الأزفة من الأرذال وقهر الأعداء والانتقام من العصاة إلى مقتضى صفات الإكرام التي تقتضي الرأفة والرحمة والعفو-انتهى. هذا، وقد أفرط بعضهم في التأويل حتىكاد أن يخرج إلى نوع من التحريف، وحمله بعضهم على ظاهره وحقيقته، وهم المشبهة تعالى الله عن قولهم، وأنكر بعضهم صحة الأحاديث الواردة في ذلك جملة، وهم الخوارج والمعتزلة، وهو مكابرة. والعجب أنهم أوّلوا ما في القرآن من نحو ذلك، وأنكروا ما في الحديث إما جهلاً وإما عنادا. قلت: الحق عندنا هو قول جمهور السف، فنؤمن بما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة على طريق الإجمال، وننزه الله سبحانه وتعالى عن الكيف والشبه بخلقه، ونذهب إلى ما وسع سلفنا الصالح من السكوت عن التأويل، ونقول ما قال البيهقي: وأسلمها الإيمان بلا كيف