فإن المسافر مباح له أن يقيم ثلاثاً وأكثر من ثلاث لا كراهية في شيء من ذلك. وأما المهاجر فمكروه له أن يقيم بمكة بعد انقضاء نسكه أكثر من ثلاث، فأي نسبة بين إقامة مكروهة وإقامة مباحة؟ وأيضاً فإن ما زاد على الثلاثة الأيام للمهاجر داخل عندهم في حكم أن يكون مسافراً. لا مقيماً وما زاد على الثلاثة فإقامة صحيحة. وهذا مانع من أن يقاس أحدهما على الآخر، وأيضاً فإن إقامة قدر صلاة واحدة زيادة على الثلاثة مكروهة للمهاجر، فينبغي عندهم إذا قاسوا عليه المسافر أن يتم، وهو خلاف مذهبهم. وقد ظهر بهذا أنه ليس حديث مرفوع صريح في ما ذهب إليه المالكية والشافعية. وكذا فيما ذهب إليه الحنفية كما صرح به ابن رشد في البداية. وقال صاحب العرف الشذى: لا مرفوع لأحد ولكل واحد آثار. فاستدل الحنفية بما روى الطحاوي عن ابن عباس وابن عمر قالا: إذا قدمت بلدة وأنت مسافر، وفي نفسك أن تقيم خمسة عشر يوماً أكمل الصلاة بها، وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصرها، ذكره الزيلعي في نصب الراية، والحافظ في الدراية، والعيني في البناية وابن الهمام في فتح القدير. وروى نحوه محمد بن الحسن في كتاب الآثار عن ابن عمر وحده. قال الشوكاني: ورد بأنه من مسائل الاجتهاد، ولا حجة في أقوال في المسائل التي للاجتهاد فيها مسرح، قال: والحق أن من حط رحله ببلد ونوى الإقامة بها أيامها من دون تردد لا يقال له مسافر، فيتم الصلاة ولا يقصر إلا لدليل ولا دليل ههنا إلا في ما في حديث الباب من إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة أربعة أيام يقصر الصلاة، والاستدلال به متوقف على ثبوت أنه صلى الله عليه وسلم عزم على إقامة أربعة أيام إلا أن يقال: إن تمام أعمال الحج في مكة لا يكون في دون الأربع، فكان كل من يحج عازماً على ذلك فيقتصر على هذا المقدار، ويكون الظاهر والأصل في حق من نوى إقامة أكثر من أربع أيام هو التمام، وإلا لزم أن يقصر الصلاة من نوى إقامة سنين متعددة، ولا قائل به. ولا يرد على هذا قوله في إقامته بمكة في الفتح: إنا قوم سفر؛ لأنه كان إذ ذاك متردداً، ولم يعزم على إقامة مدة معينة- انتهى. قلت: لا شك أنه صلى الله عليه وسلم كان جازماً بالإقامة أربعة أيام بمكة في حجته؛ لأنه دخل بها صبيحة رابعة، وخرج منها إلى منى في بعض الثامن أي بعد صلاة الصبح، فكان ناوياً لإقامة تلك المدة بلا شك، وقد قصر بها الصلاة. فهذا يدل على مذهب الإمام أحمد. ولم يثبت من حديث مرفوع قولي أو فعلي أنه صلى الله عليه وسلم أزمع على أكثر من أربعة أيام وقصر الصلاة. فالقول الراجح عندي هو ما ذهب إليه أحمد، والله أعلم. وأما حديث ابن عباس فسيأتي الكلام فيه. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج٣ ص١٣٦و١٤٥و١٤٨و١٥٣) وغيرهم.