فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلينا أربعاً)) رواه البخاري.
ــ
(فإذا أقمنا) أي مكثنا (أكثر من ذلك صلينا أربعاً) وقد أخذ به إسحاق بن راهويه أيضاً، كما تقدم في كلام الحافظ، فمدة القصر عنده وعند ابن عباس تسعة عشر يوماً، فإذا أجمع على أكثر من ذلك في موضع أتم. قال الترمذي: أما إسحاق فرأى أقوى المذاهب فيه حديث ابن عباس هذا، قال: لأن أبن عباس روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم تأوله بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. (يعني أخذ به وعمل عليه بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -) - انتهى. قلت: الاستدلال بهذا الحديث على أن من يقيم هذه المدة. (تسعة عشر أو خمسة عشر على اختلاف الروايتين والمذهبين) قصداً يقصر، لا يخلو عن إشكال؛ لأنه موقوف على ثبوت أنه - صلى الله عليه وسلم - أزمع في أول الأمر على إقامته بمكة هذه المدة، ولا دلالة في هذه القصة على ذلك أصلاً، بلا الظاهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام بمكة هذه المدة اتفاقاً، ولا يدري أول الأمر أن إقامته تمتد إلى متى؛ لأنه كان متردداً متى تهيأ له فراغ حاجته يرحل. ومن كان كذلك يقر أبداً؛ لأنه لم ينو الإقامة، والأصل بقاء السفر، ولذا قال الترمذي: أجمع أهل العلم على أن المسافر يقصر ما لم يجمع إقامة، وإن أتى عليه سنون، وكذا قال ابن المنذر. وأما الاستدلال بحديث ابن عباس على أن من يزيد على هذه المدة يتم، كما قال ابن عباس وإسحاق ففي غاية الخفاء، هذا وقد أجاب عن الأشكال المذكور الإمام ابن تيمية في أحكام السفر (ص٨١) بأنه معلوم بالعادة أن ما كان يفعل بمكة وتبوك لم يكن ينقضي في ثلاثة أيام ولا أربعة حتى يقال إنه كان يقول اليوم أسافر، غداً أسافر، بل فتح مكة وأهلها وما حولها كفار محاربون له، وهي أعظم مدينة فتحها، وبفتحها ذلت الأعداء، وأسلمت العرب. ومثل هذه الأمور مما يعلم أنها لا ينقضي في أربعة أيام، فعلم أنه أقام لأمور يعلم أنها لا تنقضي في أربعة أيام، وكذلك تبوك إلى آخر ما قال. ولا يخفى ما فيه على المتأمل. (رواه) أي أصل الحديث. (البخاري) وإلا فالسياق المذكور ليس للبخاري، فإن الحديث رواه البخاري في الصلاة بلفظ: أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة تسعة عشر يوماً يصلي ركعتين، ومطولاً بلفظ: أقمنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر تسع عشرة نقصر الصلاة. وقال ابن عباس: ونحن نقصر ما بيننا وبين تسع عشرة، فإذا أزدنا أتممنا. والسياق الذي ذكره المصنف إنما هو للترمذي والبيهقي بفرق يسير. والبغوي إنما ذكر في المصابيح سياق البخاري المختصر. ولعل المصنف أعرض عنه لاختصاره، وأورد سياق الترمذي والبيهقي، لكونه واضحاً مطولاً، لكن كان ينبغي له أن ينبه على تصرفه هذا، فإن صنيعه يدل على أن السياق المذكور للبخاري، والأمر ليس كذلك، كما عرفت، والحديث أخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج٣ ص١٤٩، ١٥٠، ١٥١) .