يفيد النهي عن جلوس المشيع أي الماشي مع الجنازة قبل أن توضع على الأرض. واختلف العلماء في ذلك، فذهب بعض السلف إلى أنه يجب القيام حتى توضع، واحتج له برواية سعيد عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا: ما رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهد جنازة قط فجلس حتى توضع. أخرجه النسائي. قال الشوكاني: ولا يخفى أن مجرد الفعل لا ينتهض دليلاً للوجوب، فالأولى الاستدلال له بحديث أبي سعيد فإن فيه النهي عن القعود قبل وضعها، وهو حقيقة للتحريم وترك الحرام واجب، ومثل ذلك حديث أبي هريرة عند أحمد مرفوعاً: من صلى على جنازة ولم يمش معها فليقم حتى تغيب عنه، فإن مشى معها فلا يقعد حتى توضع-انتهى. وقال الأوزاعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسين: يستحب له أن لا يجلس حتى توضع عن أعناق الرجال، حكى عنهم ذلك النووي، والحافظ في الفتح، ونقله ابن المنذر عن أكثر الصحابة والتابعين، وحكى في الفتح عن الشعبي والنخعي: أنه يكره القعود قبل أن توضع، وهو مذهب الحنفية والحنابلة، كما في كتب فروعهم. واختلف الشافعية في ذلك فقال بعضهم: قيام المشيع قبل وضع الجنازة بالأرض منسوخ كالقيام لمن مرت به، وهو الذي حكاه ابن قدامة عن الشافعي، وقال بعضهم كقول الجمهور: أنه يستحب له أن لا يقعد حتى توضع، واستدل للنسخ بما سيأتي من حديث عبادة بن الصامت. (عند الترمذي وأبي داود وابن ماجه والبيهقي)(ج٤ص٢٨) والبزار والحازمي (ص١٣٠) قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اتبع الجنازة لم يقعد حتى توضع في اللحد، فعرض له حبر فقال: هكذا نصنع يا محمد، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: اجلسوا وخالفوهم. وأجيب عنه بأنه حديث ضعيف كما ستعرف، فلا يسوغ الاستدلال به على نسخ السنة الثابتة بالأحاديث الصحيحة. قال الحافظ في الفتح: لو لم يكن إسناده ضعيفاً لكان حجة في النسخ. وقال الحازمي بعد روايته: هذا حديث غريب. ولو صح لكان صريحاً في النسخ، غير أن حديث أبي سعيد أصح وأثبت فلا يقاومه هذا الإسناد-انتهى. على أن هذا الحديث إنما يدل على نسخ القيام قبل الوضع في اللحد لا على نسخ القيام قبل الوضع بالأرض، والمطلوب إثبات هذا لا ذاك. قال القاري في شرح قوله "خالفوهم" فبقي القول بأن التابع لم يقعد حتى توضع عن أعناق الرجال هو الصحيح، مع أن قوله: حتى توضع في اللحد يرده ما في حديث البراء الطويل المتقدم كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس فجلسنا حوله. واستدل للنسخ أيضاً بما سيأتي من حديث علي قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بالقيام في الجنازة، ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس، أخرجه أحمد (ج١ص٨٢) وابن حبان والحازمي (ص١٢١) وأخرجه البيهقي (ج٤ص٢٧) بلفظ: ثم قعد بعد ذلك وأمرهم بالقعود. وأجاب عنه الشوكاني بأن هذا الحديث إن صح صلح للنسخ لقوله فيه: وأمرنا بالجلوس، ولكنه لم يخرج هذه الزيادة مسلم ولا الترمذي ولا أبوداود (ولا ابن ماجه ولا أحمد في أكثر رواياته) ، بل اقتصروا على قوله: ثم قعد.