للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الريح الأثر. وقد يطلق لإرادة ما يشبه النقل كقولهم: نسخت الكتاب. فأما النسخ في الشرع فهو بمعنى الرفع والإزالة لا غير، وحده: أن يرفع بخطاب متراخ حكم ثبت بخطاب متقدم. وهو في الحقيقة بيان؛ لانتهاء الحكم الشرعي المطلق، وهذا عند المتأخرين، وأما السلف فمرادهم بالنسخ رفع الحكم بجملته تارة كما هو اصطلاح المتأخرين، ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارة، إما بتخصيص أو تقييد، أو حمل مطلق على مقيد، وتفسيره وتبيينه، حتى أنهم ليسمون الاستثناء، والشرط، والصفة نسخاً لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد، فالنسخ عندهم وفي لسانهم بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه، ولذلك كثر إطلاق النسخ في كلامهم. ثم ههنا خمس صور: الأولى نسخ القرآن بالقرآن، والثانية نسخ السنة المتواترة بمثلها، والآحاد بالآحاد، ولا اختلاف فيهما؛ لأن ذلك متماثل، فجاز أن يرفع بعضه بعضاً، والثالثة نسخ السنة بالقرآن كما نسخ التوجه إلى بيت المقدس، وتحريم المباشرة ليالي رمضان، وجواز تأخير الصلاة حالة الخوف بالقرآن، وهو كان ثابتاً بالسنة، وفيها خلاف، والجواز هو ما عليه الجمهور، وللشافعي في ذلك قولان، وصحح عامة الشافعية الجواز، وهو الأصح عندنا؛ لأنه لا وجه للمنع قط، ولم يأت في ذلك ما يتشبث به المانع لا من عقل ولا من شرع، بل ورد في الشرع نسخ السنة بالقرآن في غير موضع، فمن ذلك قوله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} الآية [١٤٤:٢] . فنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالقرآن، وكان ذلك ثابتاً بالسنة، ونسخ تحريم المباشرة في ليالي رمضان بقوله تعالى: {فالآن باشروهن} [١٨٧:٢] ، ونسخ صوم عاشوراء بقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [١٨٥:٢] ، ونسخ تحليل الخمر بقوله تعالى: {إنما الخمر والميسر} الآية [٩٠:٥] . ونسخ جواز تأخير الصلاة إلى انجلاء القتال بما ورد في القرآن من صلاة الخوف، ونحو ذلك مما يكثر تعداده. والرابعة نسخ القرآن بالسنة المتواترة، وفيها أيضاً خلاف، فالمشهور عن أحمد منعه، واختاره أبويعلى من الحنابلة، وبه قال الشافعي وأكثر أصحابه، والظاهرية وغيرهم. واحتجوا بقوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} [١٠٦:٢] ، قالوا: في الآية حصر الناسخ في كونه خيراً من المنسوخ أو مثله، والسنة لا تساوي القرآن فضلاً عن أن تكون خيراً منه، فلا تكون ناسخة له. وقيل: يجوز ذلك وهو رواية عن أحمد، واختيار أبي الخطاب وابن عقيل، وأكثر الحنفية والمالكية وغيرهم، وهو الذي نصره ابن الحاجب، وحكاه عن الجمهور، وهو الأرجح عندنا؛ لأن السنة شرع من الله عزوجل، كما أن الكتاب شرع منه سبحانه، وقد قال: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [٧:٥٩] ، وأمر سبحانه بإتباع رسوله في غير موضع في القرآن فهذا بمجرده يدل على أن السنة الثابتة عنه ثبوتاً على حد ثبوت الكتاب العزيز، حكمها حكم القرآن في النسخ وغيره، وليس في العقل ما يمنع من ذلك، فإن الناسخ في الحقيقة هو الله تعالى على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - بوحي غير نظم القرآن، وقد نسخت الوصية للوالدين والأقربين بقوله: ولا وصية لوارث. وهذا يدل على وقوع نسخ القرآن بالسنة شرعاً. وأما قوله: {ما ننسخ من آية} الخ. فليس فيه إلا أن ما يجعله الله منسوخاً من الآيات القرآنية سيبدله بما هو خير منه، أو بما هو مثله للمكلفين، وما آتانا على لسان رسوله فهو كما آتانا منه، كما قال سبحانه: {إن هو إلا وحي يوحى} [٤:٥٣} وكما قال: {قل ما يكون لي أن أبدله

<<  <  ج: ص:  >  >>