ما تقدم في غير هذا الموضع، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد بيان المعاني الغيبية ولم يطاوعه فيه لفظ موضوع لذلك، فله أن يأتي فيه بما يتضح دونه المعنى المراد، ولما أراد أن يبين أن التوبة منهم يقع عند الله بأحسن موقع عبر عنه بالفرح الذي عرفوه من أنفسهم في أسنى الأشياء وأحبها إليهم، ليهتدوا إلى المعنى المراد منه ذوقًا ومالاً، وذلك بعد أن عرفهم أن إطلاق تلك الألفاظ في صفات الله تعالى على ما يتعارفونه في نعوتهم غير جائز ولا يجوز لأحد أن يتعاطى هذا النوع في كلامه ويتسع فيه إلا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه يجوز له ما لا يجوز لغيره لبراءه نطقه عن الهوى، ولأنه لا يقدم على ذلك إلا بإذن من الله، وهذه رتبة لا تنبغي إلا له صلى الله عليه وسلم - انتهى. قلت: كل صفة وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي صفة حقيقة لا مجاز، فهو تعالى يسمع ويبصر ويتكلم بما شاء متى شاء ويرضى ويسخط ويعجب ويفرح بتوبة عبده، ومعنى كل ذلك معلوم والكيف مجهول، فنثبت له ذلك كله ولا نكيفه ولا نشبهه بصفات المخلوقين ولا نؤوله ولا نعطله. قال شيخنا: لا حاجه إلى التأويل ومذهب السلف في أمثال هذا الحديث إمرارها على ظواهرها من غير تكييف ولا تشبيه ولا تأويل هذا. وقد تقدم في أول الباب ما ذكره ابن القيم في بيان معنى هذا الحديث فراجعه (كان راحلته) قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة كانت راحلته. قلت: والذي في صحيح مسلم (كان على راحلته) ، وهكذا نقله المنذري، والجزري، والراحلة البعير الذي يركبه الإنسان ويحمل عليه متاعه (بأرض فلاة) بالإضافة وبتنوين أي بمفازة ليس فيها ما يؤكل ويشرب (فانفلتت) أي: نفرت وفرت (وعليها) أي على ظهر (طعامه وشرابه) يعني يكون حزنه على غاية الشدة بذهاب الراحلة وخوف هلاك نفسه من عدم الزاد والماء (فأيس) من باب سمع (منها) أي: من وجدان الراحلة بعد طلبها (قد أيس من راحلته) أي: من حصولها ووصولها وهي جملة حالية (فبينما) كذا في جميع النسخ من المشكاة وفي صحيح مسلم فبينا (هو كذلك) أي: في هذا الحال منكسر البال (إذ هو بها قائمة عنده) إذ للمفاجأة وقائمة حال من الضمير المجرور، أي: إذ الرجل حاضر بتلك الراحلة حال كونها قائمة عنده من غير تردد في طلبها، وعليها زاده طعامه وشرابه (فأخذ بخطامها) بكسر المعجمة أي زمامها فرحًا بها فرحًا لا نهاية له (ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح) كرره لبيان عذره وسبب صدوره يعني أراد أن يحمد الله بما أنعم عليه من رد راحلته إليه وقصد أن يقول اللهم أنت ربي وأنا عبدك، فسبق