فجعل يقول: أقصر عما أنت فيه، فيقول: خلني وربي. حتى وجده يومًا على ذنب استعظمه، فقال: أقصر فقال: خلني وربي، أبعثت عليّ رقيبًا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك أبدًا، ولا يدخلك الجنة، فبعث الله إليهما ملكًا فقبض أرواحهما، فاجتمعا عنده، فقال للمذنب: ادخل الجنة برحمتي. وقال للآخر: أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي؟ فقال: لا يا رب: قال: اذهبوا به إلى النار.
ــ
يقال: إن المعنى والآخر منهمك في الذنب ليطابق قوله مجتهد في العبادة. وقال المظهر: أي يقول الآخر: أنا مذنب أي: معترف بالذنب. وقال القاري والشيخ الدهلوي: وهو الأظهر لسياق الحديث. قلت: ويؤيد القول الأول ما وقع عند أبي داود ((فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة)) (فجعل يقول) أي: المجتهد للمذنب (أقصر) بفتح همزة أمر من الإقصار أي: كف وأمسك وامتنع. قال في المجع الإقصار: هو: الكف عن الشيء مع القدرة عليه فإن عجز عنه يقول قصرت عنه بلا ألف - انتهى. ولأبي داود فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر. (عما أنت فيه) أي: من ارتكاب الذنب (فيقول) أي: الآخر: (خلني وربي) أي: اتركني معه (حتى وجده) أي: المجتهد المذنب (يومًا) أي: وقتًا ما (على ذنب استعظمه) أي: المجتهد ذلك الذنب (أبعثت) بصيغة المجهول بالاستفهام الإنكاري (علي رقيبًا) أي: أبعثك الله علي حافظًا وكأن الرجل كان يستغفر ربه ويعتذر إليه كلما أذنب، وبهذا يناسب هذا الحديث باب الاستغفار، وظاهر سياق الحديث أنه أدخل الجنة بمحض فضله ورحمته، فكان المناسب أن يورده في الباب الذي يليه فإن الأحاديث المذكورة فيه تدل على سعة رحمة الله تعالى كما لا يخفى (فقال) أي: المجتهد من إعجابه بأعماله واحتقار صاحبه لارتكاب عظيم ذنبه (ولا يدخلك الجنة) وفي بعض نسخ أبي داود أو لا يدخلك الله الجنة وهكذا وقع في الكنز (ج٤: ص١٤٢)(فقبض) أي: الملك (أرواحهما) أي: روحيهما على حد صغت قلوبكما (فقال للمذنب: ادخل الجنة برحمتي) أي: جزاء الحسن ظنك بي فقد غفرتك (وقال للآخر) في العدول عن التعبير بالمجتهد نكتة لا تخفى، وهي إن اجتهاده في العبادة ضاع لقلة علمه ومعرفته بصفات ربه وإعجابه بعمله وقسمه وحكمه على الله بأنه لا يغفر للمذنب، فانقلب الأمر وصار كالآخر. والمذنب بحسن عقيدته وحسن ظنه بربه واعترافه بالتقصير في معصيته نزل منزلة المجتهد (أتستطيع) الهمزة للإنكار أي أتقدر (أن تحظر) بضم الظاء المعجمة أي: تمنع وتحرم (على عبدي رحمتي) أي: التي وسعت كل شيء في الدنيا وخصت للمؤمنين في العقبى (فقال: لا يا رب) اعترف حين لا ينفعه الاعتراف (اذهبوا به) الخطاب للملائكة الموكلين بالنار (إلى النار) جزاء على اجتراءه علي وحلفه، وحكمه عليَّ بأن لا أغفر للمذنب ولإعجابه بأعماله واحتقاد