باعتبار ما قام به من العلم. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكى عن الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة أن كل واحد منهم توسل إلى الله تعالى بأعظم عمل عمله فارتفعت الصخرة، فلو كان التوسل بالأعمال الفاضلة غير جائز أو كان شركًا لم تحصل الإجابة لهم ولا سكت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إنكار ما فعلوه بعد حكايته عنهم - انتهى. قلت: الحق والصواب عندنا أن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته بمعنى التوسل بدعائه وشفاعته جائز وهذا هو الذي وقع في حديث الأعمى الذي نحن في شرحه كما تقدم وسيأتي أيضًا، وكذا التوسل بغيره - صلى الله عليه وسلم - من أهل الخير والصلاح في حياتهم بمعنى التوسل بدعائهم وشفاعتهم جائز أيضًا، وأما التوسل به - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته وكذا التوسل بغيره من أهل الخير والصلاح بعد مماتهم فلا يجوز سواء كان بذواتهم أو جاههم أو حرمتهم أو كرامتهم أو حقهم أو نحو ذلك من الأمور المحدثة في الإسلام، وكذا لا يجوز دعاء غير الله من الأموات والغائبين، وهذا هو الذي اختاره شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية في رسالته في التوسل والوسيلة، وقد أشبع الكلام في تحقيقه وأجاد فعليك أن تراجعها. وحديث الأعمى هو العمدة في الاستدلال عند المجوزين لأن غيره من الأحاديث إما أن يكون ضعيفًا لا يصلح للاستدلال كما بين ذلك حديثا حديثا العلامة السهسواني في ((صيانة الإنسان)) والعلامة السويدي الشافعي في ((العقد الثمين)) وذكره ملخصًا العلامة ابن الآلوسي في ((جلاء العينين)) أو أنه دليل على المجوزين لا لهم كحديث استسقاء عمر بالعباس رضي الله عنهما، وقد ذكرنا في (ص٣٣٩) من الجزء الثاني وجه فساد الاستدلال بذلك على جواز التوسل بذاته - صلى الله عليه وسلم - وسيأتي أيضًا، وكقصة أصحاب الغار التي ذكرها الشوكاني في أثناء الاستدلال لذلك فإن فيها توسل الإنسان بعمل نفسه لا بعمل غيره أو بذات غيره، لأن أصحاب الغار إنما توسلوا بأعمالهم لا بأعمال غيرهم فلا يتم التقريب بل توسل الإنسان بعبادة غيره ومزاياه غير مشروع ولا مأثور ولا معقول، وتوسل الإنسان بعمل نفسه مما لا ينكره أحد من الأئمة وفيه أيضًا ما قال العلامة السهسواني في ((صيانة الإنسان)) : إنا لا نسلم أن الفاضل إذا كان فضله بالأعمال كان التوسل به توسلاً بأعماله الصالحة لم لا يجوز أن يكون التوسل به توسلاً بذاته، بل هو الظاهر فإن حقيقة التوسل بالشيء التوسل بذاته والتوسل بالأعمال أمر خارج زائد على الحقيقة ولا يصرف عن الحقيقة إلى المجاز إلا لمانع. قال صاحب المنار: إن المعلوم من حال هؤلاء المتوسلين بالأشخاص أنهم يتوسلون بذواتهم الممتازة بصفاتهم وأعمالهم المعروفة عنهم لاعتقاد أن لهم تأثيرًا في حصول المطلوب بالتوسل إما بفعل الله تعالى لأجلهم وإما بفعلهم أنفسهم مما يعدونه كرامة لهم. وقد سمعنا الأمرين منهم وممن يدافع عنهم وكل من الأمرين باطل. وفيه أيضًا أنه لو سلم أن مراد القائل: اللهم إني أتوسل إليك بالعالم الفلاني هو التوسل بأعماله لا التوسل بذاته فاللفظ محتمل للتوسل بالذات أيضًا وهذا مما لا شك فيه وقد نهانا الله تعالى عن استعمال لفظ موهم لأمر غير جائز فقال في سورة البقرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(- ٢: ١٠٤) قال الإمام العلامة القنوجي البوفالي في تفسيره ((فتح البيان)) : وفي ذلك