به من حال إلى حال حتى ينتهي إلى احتقار سلطان المادة وتأثيره في النفس، وهذا الفيض الشعوري تمتزج فيه العناصر الروحية بعضها ببعض وتتجاوب في النفس وتتبين آثارها في الإرادة والعمل من تعظيم للدين وحب شديد للرسول الأكرم - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالح من الأمة وغيرة على المجتمع الإسلامي ورغبة في إسعاده، ومن ندم على ما سبق من التفريط في جنب الله ورغبة في استدراك ما فات في أزمان الغفلة وغرة الشباب من الطاعات والقربات وهذه الرياضة النفسية هي ثمرة الحج الكبرى حتى إذا انتهت أعماله وعاد الحاج إلى وطنه وأهله لم يفارقه ذلك الشعور الرباني ولا ريب أن كثيرًا ممن حجوا مخلصين لله تتأثر حياتهم بذلك الشعور الفياض الذي كسبوه في أثناء ارتحالهم في الأراضي المقدسة وتلمح في أخلاقهم الاستقامة والإقلاع عن كثير من المساوي التي كانت تشوب حياتهم قبل الحج ومثل هذا يسمى الحج المبرور الذي يتقبله الله ويعظم الثواب عليه، كما جاء في الحديث. ثم ذكر ما يحصل في هذا السفر الطويل الشاق من فائدة تعويد المسافر خلال تلك الرحلة احتمال كثير من المشقات بالتنقل المستمر لأداء المناسك ونقل الأمتعة والأزواد ونصب الخيام أو تقويضها وإعداد الرواحل أو السيارات وغير ذلك من الأعمال الشاقة، ثم قال: وبعض الحجاج يلتمسون مع أداء فريضة الحج في هذا الموسم ضروبًا من النفع المادي فينقلون المتاجر من شتى البلاد إلى الحجاز ويبيعونها هناك ويتزودون لبلادهم وأهليهم من طرائف الحجاز ومما يحمله إليه الناس من سائر البقاع والأصقاع، وليس هذا العمل محرمًا في الدين تقول الآية الكريمة {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ}(٢: ١٩٨) وتقول آية أخرى {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}(٢٢: ٢٧، ٢٨) ومن هذه المنافع التجارة التي يقوم عليها الموسم ويمكن أن تجعل البلاد المقدسة سوقًا إسلامية للتجارة (بدل أن تكون سوقًا تجارية لمصنوعات: أوربا، وروسيا، وأمريكا،، واليابان، والصين. وغير ذلك من بلاد الشرق والغرب) كما كانت في القرون الإسلامية الأولى سوقًا من أعظم الأسواق بين الممالك الإسلامية الشرقية والغربية ومن أعظم الأسباب لنشر الحضارة والثقافة في أحقاب طويلة، فقد كان التجار يتحينون موسم الحج لينقلوا حاصلات بلادهم وثمرات اجتهادهم إلى مكة والمدينة حيث يجتمع العديد الأكبر فيقبل الناس على اقتناء الطرف والنفائس من الثياب والحلي والطنافس والأواني النحاسية وأنواع الطيب ونحو ذلك ويتخذون منها الهدايا للأهل والأصحاب، وكان العلماء وأصحاب الفنون يلتقون في الموسم فيأخذ بعضهم عن بعض ويتبادلون الكتب والآثار العلمية والفنية وخاصة علماء الحديث الذين يجدون في هذا الموسم أحسن الفرص للرواية والإجازة وكان هذا التبادل التجاري والثقافي في جميع مظاهره من أحسن الوسائل لتعميم الحضارة وبعث روح التنافس الجدي بين المسلمين في الممالك والأقطار المختلفة - انتهى. وقال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة (ج٢: ص٤٢) : المصالح المرعية في الحج أمور منها تعظيم البيت فإنه من شعائر الله وتعظيمه هو تعظيم الله تعالى ومنها تحقيق معنى العرضة فإن لكل دولة أو ملة اجتماعًا يتوارده الأقاصي والأداني ليعرف فيه بعضهم بعضًا ويستفيدوا أحكام