انتهى. قلت: وقد اختلف القائلون بالفسخ في حكمه هل هو واجب أو مستحب، فذهب الإمام أحمد إلى أنه مستحب، ومال فريق إلى الوجوب، منهم ابن حزم وابن القيم. قال ابن حزم: وهو قول ابن عباس وعطاء ومجاهد وإسحاق. قلت: واستدل لهم بما رواه أحمد وابن ماجة وأبو يعلى من حديث البراء بن عازب، قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، قال: فأحرمنا بالحج، فلما قدمنا مكة قال:" اجعلوا حجكم عمرة ". قال: فقال الناس: يا رسول الله قد أحرمنا بالحج فكيف نجعلها عمرة؟ قال:" انظروا ما آمركم به فافعلوا ". فردوا عليه القول فغضب ثم انطلق حتى دخل على عائشة غضبان فرأت الغضب في وجهه. فقالت: من أغضبك أغضبه الله. قال:" وما لي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع ". قال ابن القيم: بعد ذكر حديث البراء: ونحن نشهد علينا أنا لو أحرمنا بحج لرأينا فرضًا علينا فسخه إلى عمرة تفاديًا من غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإتباعًا لأمره، فوالله ما نسخ هذا في حياته ولا بعده ولا صح حرف واحد يعارضه ولا خص به أصحابه دون من بعدهم، بل أجرى الله على لسان سراقة أن سأله هل ذلك مختص بهم؟ فأجابه بأن ذلك كائن لأبد الأبد. فما ندري ما يقدم على هذه الأحاديث (يعني التي تدل على جواز فسخ الحج إلى العمرة) . وهذا الأمر المؤكد الذي غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من خالفه - انتهى. قال الشوكاني: استدل بقول البراء ((فغضب)) . من قال بوجوب الفسخ لأن الأمر لو كان أمر ندب لكان المأمور مخيرًا بين فعله وتركه، ولما كان يغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند مخالفته لأنه لا يغضب إلا لانتهاك حرمة من حرمات الدين لا لمجرد مخالفة ما أرشد إليه على جهة الندب ولا سيما وقد قالوا له: قد أحرمنا بالحج فكيف نجعلها عمرة؟ فقال لهم:" انظروا ما آمركم به فافعلوا ". فإن ظاهر هذا أن ذلك أمر حتم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كان أمره ذلك لبيان الأفضل أو لقصد الترخيص لهم بين لهم بعد هذه المراجعة أن ما أمرتكم به هو الأفضل. أو قال لهم: إني أردت الترخيص لكم والتخفيف عنكم (قال) وقد أطال ابن القيم في الهدي الكلام على الفسخ ورجح وجوبه وبين بطلان ما احتج به المانعون منه، فمن أحب الوقوف على جميع ذيول هذه المسألة فليراجعه. وإذا كان الموقع في مثل هذا المضيق هو إفراد الحج، فالحازم المتحري لدينه الواقف عند مشتبهات الشريعة ينبغي له أن يجعل حجه من الابتداء متمتعًا أو قرانًا مما هو مظنة البأس إلى ما لا بأس به، فإن وقع في ذلك فالسنة أحق بالإتباع، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل – انتهى. قلت: القول الراحج عندنا هو ما ذهب إليه أحمد ومن وافقه من أن فسخ الحج إلى العمرة ليس خاصًا للصحابة في تلك السنة، بل يجوز أو يسن ويستحب لكل من أحرم بحج وليس معه هدي أن يقلب إحرامه عمرة ويتحلل بأعمالها ليصير متمتعًا. وأما حديث أبي ذر وبلال بن الحارث فمحمولان على الوجوب يعني أن وجوب فسخ الحج إلى العمرة خاص بذلك الركب في تلك السنة. وأما الجواز والاستحباب فهو باق للأمة إلى يوم القيامة، وهو محمل حديث جابر وغيره من أحاديث الفسخ، ولا منافاة بين اختصاص الوجوب بالصحابة وبين بقاء المشروعية والاستحباب إلى أبد الأبد، وعلى ذلك