وذلك بأن نقول: جعل الحجر لما وضع فيه من الأنس والهيبة واليمن والكرامة كالشيء الذي نزل من الجنة وأراد به مشاركته جواهر الجنة في بعض أوصافها كأنه نزل من الجنة، ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم - ((العجوة من الجنة)) وقد علمنا أنه أراد بذلك مشاركتها ثمار الجنة في بعض ما جعل فيها من الشفاء والبركة بدعائه - صلى الله عليه وسلم - بذلك فيها ولم يرد ثمار الجنة نفسها للاستحالة التي شاهدنا فيها كاستحالة غيرها من الأطعمة ولخلوها من النعوت والصفات الواردة في ثمار الجنة، وتأويل قوله ((نزل من الجنة)) أي الصفات الموهوبة لها كأنها من الجنة. قال الله تعالى:{وأنزلنا الحديد}(٥٧: ٢٥) وقال: {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج}(٣٩: ٦) فحمل الإنزال على معنى القضاء والقسمة، ومنهم من ذهب فيه إلى معنى الخلق، ومنهم من قال إنه أقام إنزال الأسباب فيها مقام إنزالها نفسها. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وهو أشد بياضًا من اللبن)) . فمعناه أن الحجر كان من الصفاء والنورانية على هذا النعت فسودته خطايا بني آدم، ومعنى هذا القول – والله أعلم – أن كون بني آدم خطائين مقتحمين على موارد الهلكات، اقتضي أن يكون الحجر على الشاكلة التي هو عليها من السواد لئلا يتسارع إليهم المقت والعقوبة من الله تعالى، فإن كل من شاهد آية خارقة للعادة ثم بخس بحقها استحق الطرد من الله فأضيف التسويد إلى الخطايا لأنها كانت السبب في ذلك. ومن الدليل على هذا التأويل قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن عمر الآتي ((إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة، طمس الله نورهما)) الحديث. فالذي طمس نورهما هو الله سبحانه وتعالى حكمة بالغة منه في الشيء الذي ذكرناه. ثم لمعنى آخر وهو كونه أتم فائدة في حال المكلفين، لأنه إذا عظموه حق تعظيمه من غير مشاهدة آية باهرة صح إيمانهم بالغيب، وذلك من أعلى مقامات أهل الإيمان فيكون من أجدى الأشياء في محور الخطايا وتمحيص الذنوب، وذلك إحدى المعنيين في إضافة التسويد إلى الخطايا لاقتضاءها ذلك من طريق الحكمة. وقال بعض الفضولية: إنه لو كان هذا الذي رووه من تسويد خطايا بني آدم الحجر واقعًا لتناقلته الأمم في عجائب الأخبار، ولقد أجبت عن ذلك في كتاب المناسك وأعطيت القول حقه في موضعين منه، ولم أرد ترديد القول ها هنا إيثار للاختصار – انتهى. قلت: لا ملجئ للتأويل الذي ذكره القاضي والتوربشتي بل يحمل الحديث على ظاهره، إذ لا مانع من ذلك عقلاً ولا سمعًا لاسيما وقد جاء هذا الحديث عند الطبراني بلفظ يبعد التأويل كما تقدم، قال الشيخ عبد الحق الدهلوي: ولعمري ما في الحديث ما يخالف الدليل القاطع الحاكم باستحالته حتى يجب تأويله وصرفه عن ظاهره، أما النزول من الجنة فلا استحالة فيه فإن الجنة فيها جواهر، فيمكن أن الله أنزل منها شيئًا إلى الأرض حتى يحمل الإنزال على معنى القضاء والقسمة أو معنى الخلق أو إقامة إنزال الأسباب فيها مقام إنزالها نفسها كما في قوله تعالى:{وأنزلنا الحديد}{وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} وأما قولهم إنا قد عرفنا بالنصوص الثابتة أن الجنة وما احتوت عليه من الجواهر مباينة لما خلق في هذه الدار الفانية في الخواص (إلى آخر ما قالوا) فنقول: يمكن أن يكون فقدان خواص الجنة لنزوله إلى هذه الدار وسراية أحوالها وأحكامها إليه ويستأنس له بما يأتي من حديث عبد الله بن عمر