وقد اعترف بذلك بعض الحنفية حيث قال: يلزم على ما قررنا القول بوجوب الترتيب في الأعمال الأربعة من الرمي والنحر والحلق والطواف، وكلام أصحابنا صريح في نفي وجوبه مطلقًا في الطواف دون سائر الأعمال، ولم أجد إلى الآن مع البحث الشديد في الفرق بين الطواف وبين الأفعال الثلاثة وجهًا شافيًا، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا – انتهى. وقد تعرض الزرقاني للجواب عن التعقب المذكور فقال: إن مالكًا خص من العموم تقديم الحلق على الرمي فأوجب فيه الفدية لعلة أخرى وهي إلقاء التفث قبل فعل شيء من التحلل وقد أوجب الله ورسوله الفدية على المريض أو من برأسه أذى إذا حلق قبل المحل مع جواز ذلك له لضرورته فكيف بالجاهل والناسي، وخص منه أيضًا تقديم الإفاضة على الرمي لئلا يكون وسيلة إلى النساء والصيد قبل الرمي، ولأنه خلاف الواقع منه - صلى الله عليه وسلم - ولم يثبت عنده زيادة ذلك فلا يلزمه زيادة غيره، وهو أثبت الناس في ابن شهاب، ومحل قبول زيادة الثقة ما لم يكن من لم يزدها أوثق منه. وابن أبي حفصة الذي روى ذلك عن ابن شهاب وإن كان صدوقًا وروى له الشيخان لكنه يخطئ بل ضعفه النسائي، واختلف قول ابن معين في تضعيفه، وكان يحيى بن سعيد يتكلم فيه – انتهى. وحاصل هذا الجواب أن المراد في أحاديث الباب بنفي الحرج هو نفي الإثم فقط، وأما وجوب الدم في بعض الصور فإنما أوجبه مالك أو غيره لدلائل أخرى. قلت: لم يثبت بحديث مرفوع صحيح أو ضعيف وجوب الدم في شيء من التقديم والتأخير، وأما ما يذكر فيه من قول ابن عباس أو غيره فسيأتي الجواب عنه، وزيادة الثقة مقبولة إذا لم يعارض لرواية من هو أوثق منه، ولا معارضة ها هنا بين الروايات فيجب قبولها، وقال ابن دقيق العيد: من قال بوجوب الدم في العمد والنسيان عند تقديم الحلق على الرمي فإنه يحمل قوله عليه السلام: " لا حرج ". على نفي الإثم ولا يلزم من نفي الإثم نفي وجوب الدم، وادعى بعض الشارحين أن قوله عليه السلام لا حرج ظاهر في أنه لا شيء عليه، وعنى بذلك نفي الإثم والدم معًا، وفيما ادعاه من الظهور نظر وقد ينازعه خصومه فيه بالنسبة إلى الاستعمال العرفي فإنه قد استعمل ((لا حرج)) كثيرًا في نفي الإثم وإن كان من حيث الوضع اللغوي يقتضي نفي الضيق، نعم من أوجب الدم وحمل نفي الحرج على نفي الإثم يشكل عليه تأخير بيان وجوب الدم، فإن الحاجة تدعوا إلى بيان هذا الحكم فلا يؤخر عنها بيانه، ويمكن أن يقال: إن ترك ذكره في الرواية لا يلزم منه ترك ذكره في نفس الأمر – انتهى. قلت: ذكر هذا الإشكال الحافظ أيضًا فقال: تعقب بأن وجوب الفدية يحتاج إلى دليل، ولو كان واجبًا لبينه - صلى الله عليه وسلم - حينئذٍ لأنه وقت الحاجة ولا يجوز تأخيره، وأجاب العيني عن هذا التعقب فقال: لا، ثم دليل أقوى من قوله تعالى {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله}(٢: ١٩٦) وبه احتج النخعي فقال: فمن حلق قبل الذبح اهراق دمًا، رواه ابن أبي شيبة عنه بسند صحيح – انتهى. وقد ورد الحافظ هذا الاحتجاج بأن المراد ببلوغ محله وصوله إلى الموضع الذي يحل ذبحه