واحتج بعضهم لذلك أيضًا بأن ابن عباس روى مثل حديث عبد الله بن عمرو كما سيأتي، وأوجب الدم، فقد روى الطحاوي بسنده عنه أنه قال: من قدم شيئًا من حجه أو أخره فليهرق لذلك دمًا، فلولا أنه فهم أن المراد بنفي الحرج نفي الإثم فقط دون الفدية لما أمر بخلافه، وفيه أنه قد روى عن ابن عباس مرفوعًا ما يعارضه فقد روى البيهقي (ج ٥: ص١٤٣) عن أبي الحسن العلوي عن عبد الله بن محمد بن شعيب البزمهراني عن أحمد بن حفص بن عبد الله عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - – الحديث. وفيه ((فما علمته سئل عن شيء يومئذٍ إلا أنه قال: لا حرج ولم يأمر بشيء من الكفارة)) قال البيهقي: هذا إسناد صحيح، وروى البيهقي أيضًا (ج ٥ ص ١٤٣، ١٤٤) بسنده عن ابن عباس قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من قدم من نسكه شيئًا أو أخر فلا شيء عليه ". قال الشيخ محمد عابد السندي في المواهب اللطيفة بعد ذكره: هذا مرفوع مقدم على موقوفه – انتهى. وأجاب ابن التركماني عن الرواية الأولى بأن الزيادة المذكورة وهي قوله ((ولم يأمر بشيء من الكفارة)) غريبة جدًا لم أجدها في شيء من الكتب المتداولة بين أهل العلم وشيخ البيهقي وشيخ شيخه لم أعرف حالهما بعد الكشف والتتبع إلى آخر ما قال. وأجاب بعضهم عن الرواية الثانية بأنه أي شيء يزيد فيه على حديثه المرفوع الذي سيأتي بلفظ لا حرج؟ فقوله ((لا شيء عليه)) أيضًا يحمل على ما حملنا عليه قوله ((لا حرج)) أي لا شيء عليه من الإثم وإعادة فعل فعله على غير ترتيب. قال: والظاهر أن حديث البيهقي مختصر من حديث الباب، قد اختصره بعض الرواة ورواه بالمعنى – انتهى، ومن الوجوه التي اعتذروا بها عن أحاديث الباب أن فتوى الراوي إذا كان مخالفًا لروايته يعمل بفتواه، وهذا ابن عباس الراوي لحديث الباب قد أفتى بوجوب الدم كما تقدم، وتعقب بأن الطريق بذلك إلى ابن عباس فيها ضعف، وأيضًا قد روي عنه ما يعارض فتواه صريحًا كما تقدم أيضًا، وأيضًا قد روى البيهقي بسنده عن مقاتل أنهم سألوا أنس بن مالك عن قوم حلقوا من قبل أن يذبحوا، قال: أخطأتم السنة ولا شيء عليكم. وهذا كما ترى مخالف لفتوى ابن عباس وموافق لحديثه المرفوع، وأيضًا نحن متعبدون بما بلغ إلينا من الحديث ولم نتعبد برأي الراوي أو بما فهمه كما بسطه ابن القيم في الإعلام والعلامة القنوجي في حصول المأمول، ومنها أن أحاديث الباب معارضة لدلالة آية الأذى فإن الله تعالى إذ أوجب الفدية لعذر الأذى فكيف بدون العذر. قال ابن رشد في البداية: وعمدة مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم على من حلق قبل محله من ضرورة بالفدية فكيف من غير ضرورة – انتهى. وتعقبه ابن الهمام فقال: أما الاستدلال بدلالة قوله تعالى {فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من رأسه}(٢: ١٩٦) الآية فإن إيجاب الفدية للحلق قبل أوانه حالة العذر يوجب الجزاء مع عدم العذر بطريق أولى، فمتوقف على أن ذلك التأقيت الصادر عنه - صلى الله عليه وسلم - بالقول كان لتعيينه لا لاستنانه – انتهى. وأما ما قال مالك في باب الحلاق من موطأه: الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا أن أحدًا لا يحلق رأسه ولا يأخذ من شعره حتى ينحر هديًا إن كان معه ولا يحل من شيء حرم