أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل وقال:((لتأخذوا عني مناسككم)) فمن الروايات الصحيحة الدالة على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر الطويل في حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه قد صرح فيه بأنه جمع في وقوفه بين النهار من بعد الزوال، وبين جزء قليل من الليل مع قوله:" لتأخذوا عني مناسككم ". ودليل القائلين بأن من اقتصر في وقوفه بعرفة على جزء من الليل دون النهار فقد تم حجه: حديث عبد الرحمن بن يعمر المذكور، فإن فيه من تصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن من أدرك عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه، و ((جمع)) هي المزدلفة، وليلتها هي الليلة التي صبيحتها يوم النحر، ودليل من ألزموه دمًا مع وقوفه بعرفة في جزء من الليل وهم المالكية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكتف بالليل بل وقف معه جزءًا من النهار، فتارك الوقوف بالنهار تاركًا نسكًا، وفي الأثر المروي عن ابن عباس: من ترك نسكًا فعليه دم، ولكن قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الديلي ((فقد تم حجه) لا يساعد على لزوم الدم، لأن لفظ التمام يدل على عدم الحاجة إلى الجبر بدم، فهو يؤيد مذهب الجمهور، والعلم عند الله تعالى، ودليل من قال: بأن من اقتصر في وقوفه بعرفة على النهار دون الليل أن وقوفه صحيح وحجه تام: حديث عروة بن مضرس، فإن فيه ((وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهارًا فقد تم حجه)) قال المجد في المنتقى بعد أن ساق هذا الحديث: رواه الخمسة وصححه الترمذي، وهو حجة في أن نهار عرفة كله وقت للوقوف – انتهى. وقد قدمنا إجماع أهل العلم على أن وقت الوقوف ينتهي بطلوع الفجر ليلة جمع، وإجماعهم على أن ما بعد الزوال من يوم عرفة وقت للوقوف، وأما ما قبل الزوال من يوم عرفة فجمهور أهل العلم على أنه ليس وقتًا للوقوف، وخالف أحمد الجمهور في ذلك قائلاً إن يوم عرفة كله من طلوع فجره إلى غروبه وقت للوقوف، واحتج لذلك بحديث عروة بن مضرس فإن فيه ((وقد وقف بعرفة ليلاً أو نهارًا فقد تم حجه)) فقوله - صلى الله عليه وسلم - ((ليلاً أو نهارًا)) يدل على شمول الحكم لجميع الليل والنهار، وقد قدمنا قول المجد في المنتقى بعد أن ساق هذا الحديث: وهو حجة في أن نهار عرفة كله وقت للوقوف، وحجة الجمهور هي أن المراد بالنهار في حديث عروة خصوص ما بعد الزوال بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين بعده لم يقفوا إلا بعد الزوال ولم ينقل عن أحد أنه وقف قبله، قالوا: ففعله - صلى الله عليه وسلم - وفعل خلفائه من بعده مبين للمراد من قوله ((أو نهارًا)) والحاصل أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج إجماعًا، وأن من جمع بين الليل والنهار من بعد الزوال فوقوفه تام إجماعًا، وأن من اقتصر على الليل دون النهار فوقوفه تام ولا دم عليه عند الجمهور خلافًا للمالكية القائلين بلزوم الدم، وأن من اقتصر على النهار دون الليل لم يصح وقوفه عند المالكية، وعند جمهور العلماء حجه صحيح، منهم الشافعي وأبو حنيفة وعطاء الثوري وأبو ثور، وهو الصحيح من مذهب أحمد. ولكنهم اختلفوا في وجوب الدم، فقال أحمد وأبو حنيفة يلزمه دم، وعن الشافعية قولان: أحدهما لا دم عليه وصححه النووي وغيره، والثاني: عليه دم، قيل وجوبًا وقيل استنانًا، وقيل